|
رواية |
"اسمي زيزفون" رواية ترصد صوت العقل وموته
|
|
|
القاهرة 05 مارس 2024 الساعة 11:59 ص
مقال: سماح ممدوح حسن
لا نعرف إن كان الإنسان جُبل على السعي إلى الخلود، لكن كل الإرث الحضاري يدل على ذلك. مارس البشر تخليد ذكراهم على الأرض إما بالتكاثر وتوارث الأسماء والسير وإما بالنقوش والمنحوتات الأثرية، أو بطريقة هى الأسمى بالكتابة، وهى سبيل "زيزفزن، جهيدة" لتقول للعالم: كنت هنا وعشت على هذه الأرض. وتلك هى رواية "اسمي زيزفون" للكاتبة السورية سوسن جميل حسن عن دار منشورات الربيع، الرواية المدرجة بالقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2023.
-
زيزفون، الكتابة سبيل الخلود:
تُحدّثنا "جهيدة" التى كرهت اسمها فقررت منذ الصغر أن تصتنع لنفسها اسمًا لا تقبل أن يناديها الآخرون إلا به "زيزفون". لم تفطن زيزفون إلى غريزة الخلود البشرية إلا عندما سقطت مغشيا عليها، معتقدة كما أهلها، أنها ماتت. وعندما استفاقت أدركت أنها لم تفعل ما يثبت أنها كانت هنا عاشت على الأرض وأحدثت تغييرًا. زيزفون السيدة ذات الستين عاما مرت كلمح البصر، لم تتزوج ولم تنجب أطفالا يحملون اسمها وما أدركت ذاك الواقع إلا لحظة استعادت وعيها، فلما أرادت الصراخ وقول "كنت هنا" لجأت إلى السبيل الأسمى والأقدم، الكتابة.
سأكتب. الكلمة الفصل وبداية قرار التخليد. لكن عما كتبت؟ لم تجد إلا ما تعرفه لتكتب عنه، حياتها وذكريات أعوامها الستين. ومن مذكرات زيزفون ستضاء أمام قارئها نقاط حتى لو ضئيلة لمناطق مجهولة لم يُعرف عنها إلى القشور. تاريخ زيزفون الخاص المتماهي مع تاريخ بلادها العام.
عندما يكتب إنسان مذكراته أول ما تنضح به الذاكرة، غالبا، تكون أيام الطفولة. وذكريات طفولة زيزفون بدأتها بوعي يتفتح على حرب لم تسمها صراحة لكن السياق ينعق بأنها حرب 1967، الهزيمة على الجبهة السورية والتى لم تختلف عما حدث فى مصر. غم وكرب لحق بالنفوس، أوطان مسلوبة، وتطلّع لاسترداد الكرامة. وانتهت المذكرات بحرب معاصرة تعيش زيزفون تفاصيلها حية، الحرب فى سوريا على الإرهاب.
عَرف العالم عن الحرب فى سوريا لكن بتركيز أكبر على بعض المظاهر دون الأخرى. فقد تناول الإعلام والأدب والفن، سينما وتلفزيون، مأساة السوريين مع اللجوء والتنظيمات الإرهابية، إما بتناول الأحداث من قلب هذه التنظيمات على ألسن الأبطال وإما عن المعتقلين على يد الأمن والتعذيب والموت والنفي حتى، لكن زيزفون نقلت كاميرا سردها إلى منطقة لم تأخذ حقها بالتناول، عن الناس. ممن لم ينضموا للمظاهرات ولا أولئك المنضمين للمنظمات الإرهابية. عرّفتنا كيف تأثر الريف الفقير، ريف اللاذقية، التى تعيش فى كنفه بالأحداث، وكيف استُغل الفقر والعوز المتجذّر فى تلك المناطق وتغذية روح الطائفية وتسهيل امتلاك الأسلحة حتى عندما يحين الوقت يقتتل الجميع مع بعضه البعض ليتلهى عن خصمه المشترك والحقيقي.
-
الوهم بالمعرفة وحصاد الجهل:
تسير الرواية فى خطين سرديين. سرد الماضي، ذكريات زيزفون وفيها تكون الرواي العليم الذى يُخبر بصوته عما مضى. والخط الثاني هو السرد الآني حيث تدخّل بقية الشخوص فى صنع الأحداث والحديث.
بعدما تستغرق زيزفون فى لحظات تدوينها تستفيق على كارثة ما. وإحدى تلك الكواث الحدث الذى به بدأت الرواية، تفجير انتحاري يحصد الأرواح البريئة. وعندما تتوغل زيزفون فى الاستفسار عما يدور فى العالم الذى تعيش وسطه تُصدم بجهلها وتتفاجأ بأنها حقا تعيش على سطح العالم.
لزيزفون صديق اكتشفت بعد موته أنه حب حياتها، اسمه "سعيد" ويمثّل صوت العقل فى الرواية. سعيد هو الجانب الواعي فى حياة زيزفون. فهو ببساطة ظاهريا يعيش على طرف العالم، شخص رفض الانخراط فى الخدمة العسكرية لعدم قناعته بجدوى ما يحدث، رفض تنفيذ الأوامر فسُرّح لعدم ملائمته تلك الحياة بعد فترة تعذيب، وهو الأمر الذى أنكره عليه أهله وأهل قريته فنعتوه بالجنون. وبهذا يتأكد سعيد أي الفريقين منهم هو المصاب بالجنون. اعتزلهم وعاش على أطراف القرية فى غرفة طينية بنى بها ملحقا يربى فيه الكلاب وقطعة أرض يزرع فيها ما يأكل ويأكل فقط مِن عمل يده. ومن منعزله توصل لحل معضلات مجتمعه دون الانحياز لأي طرف أو تعصب لأي طائفة وبعيدًا عن كل المؤثرات.
رصدنا على صوت عقل سعيد التغييرات الحديثة التى طرأت على قرية الرواية، الفضائيات والهواتف المحمولة والإنترنت. لم يكن سعيد يرفض التحديث إطلاقا لكن استهجانه لتزايد التظاهر بالحداثة.
يمتلك الجميع الهواتف الخلوية ويتحدثون عن النظريات العلمية الحديثة ويعمل الشخص فى إدارة تربوية مثلا، وفى الوقت نفسه يضرب الزوجة ويحرم الأخت من الميراث وغيره. لم يستهجن الحداثة بل استهجن المظهرية، كيف يتظاهر الناس بالحداثة وعقولهم من العصور الحجرية!
ظن الجميع أنه يجهل ما يدور بالعالم ليتضح فيما بعد أنه أحد العناصر المُحرّكة للأحداث سلميًا وعقلانيا. هو الذى فتّح عين زيزفون على حقيقة العالم الذى تنخرط به يوميًا ولا تعرف عنه شيئا. عن تغذية الكراهية بين العشائر، عن إزكاء روح الطائفية، عن صناعة الإرهاب، لتخرج زيزفون بعد كل جلسة معه متأكده أنها لا تعرف أكثر من موضع قدمها.
شخصية أخرى مشاركة فى تأكيد هذه المعرفة لزيزفون وهو"منير" الضلع الثالث فى مثلث صداقتها وسعيد. منير الذى آنس للبرية، روّض الضوارى من الأفاعي والعقارب، وراعي مصارعة الديوك. ظنه الجميع وزيزفون معهم أنه فقط ذاك الهائم على وجهه الأبله، مَن لا يبِن على محياه أيا مما تتخم به روحه، بعيدا تماما عن غابة بشريتهم. لكنه مع تصاعد الأحداث يثبت لزيزفون أنها الوحيدة التى تعيش هنا حاضرة بالجسد فقط. منير، يعرف دروب التهريب والمهربين، يعرف تجار الدين وتجار الحرب، يعرف الحقيقة وراء الحقيقة فقط وهو يقف متفرجا مِن بعيد.
كيف يُصنع تجار الدين والإرهابيون وتجار الدم والانتهازيون؟ كلهم تجمعوا فى شخصيات مذكرات زيزفون. كأديب، الشخص الذى توفرت فيه كل الشروط ليكون عميلا للأمن. فهو الشخص الغارق فى كل الموبقات مرتديا وجه الملائكة وزي رجال الدين. إن لم يحصل على ما يريد يهدم المعبد فوق رؤوس الجميع. راعي الجهل والخرافة فى قرية الجهلاء وبها يتسلط على رقابهم.
يوجد بالعالم "أديب" وأعوانه حُماة الخرافة والجهل، وأيضا خُلق المقاومين رافضي الخضوع لها. وزيزفون من هؤلاء المقاومين حتى لو لم تكن هى بذاتها تعرف ذلك. زيزفون مَن أحرقت المزار"أبو طاقة" الذى امتهنت كرامتها به عندما أجبرت على خوض اختبار العفة، وهوعبارة عن كوة فى الجدار على الفتاة اجتيازها لتثبت عفتها أمام الجميع. أحرقت رمز الخرافة أثبتت أن هناك أملًا فى التغيير. أيضًا بترك سعيد كلابه لمهاجمة شيخ المزار زعزع فكرة قداسة الشخص فى نفوس الخانعين.
يُعد مقتل "سعيد" بعد تصاعد الأحداث ووصولها للذروة حيث لم يعد أحد يسمع كلمة العقل، رمزًا لانتهاء فكرة الحيادية العقلانية، رمزًا لانتهاء فكرة التفكّر قبل فوات الأوان. هناك رمزية أخرى فى الحديث عن كثرة الأسلحة فى أيد الجميع حتى بات الحصول على الأسلحة أسهل بكثير من الحصول على الطعام وتلك كانت نقطة البداية للجنون الجماعي الذى أصيب به الكل. فسعيد الذى يدعو للسلام مات ومن يبيعون الأسلحة أحياءً يتكاثرون.
رمزية النهاية فى الرواية. على مدار الأحداث، تروي لنا زيزفون كيف كَبر أخوها شعبان كشخص أناني لا يحب غير نفسه، وكلما كبر زاد لُئم طباعه وزاد الصراع بينهما. كلما دارت بهم الأيام زاد الصراع المتزامن مع الصراع فى البلاد.
فى البداية كانت معاركهما متوارية لا تخرج إلا فى بضع كلمات، وعلى الصعيد العام لم يكن الاحتجاج إلا فى بضع منشورات ولقاءات طلابية. شيئًا فشيئا يتزايد الصراع بين الأخوين فيلحّ الأخ شعبان على أبيه قبل موته بنقل ملكية بيت القرية له ولأخيه فقط، رغم ثرائه الفاحش، وحرمان الأخت زيزفون من الميراث وهى مَن حملت المسؤولية كاملة بعد وفاة أمها وضحت بالتعليم والحياة مِن أجل أخوتها ومن بينهم من يصارعها الآن وهى مَن حملت مسؤزلية الأب الذى عاش قعيدًا أربعين سنة مِن حياته.
وعلى الصعيد العام لم يكن يعيش بشكل آدمي إلا من يتقربون من السلطة سواء أقارب أو ممن يخدمونهم فى حين أن بقية الشعب أنهكته مصارعة الحياة للفوز فقط بلقمة تسد الرمق. الأخ يمتلك الملايين والمنازل الشبيهة بالقصور فى كل المدن الكبري ورغم ذلك لا يهدأ إلا بأخذ البيت الطيني بالقرية وإلقاء الأخت بالشارع. ثم تأتي رمزية النهاية، الحريق. حرق شعبان البيت الذى لم يستطع سرقته، وحرق الاستبداد البلاد بعدما لم يقدر على تطويع الناس وإخضاعهم أكثر لطغيانه.
|
هل لديك تعليق؟
الاسم : |
|
البريد الالكتروني : |
|
موضوع التعليق : |
|
التعليق : |
|
|
|
|
|
|
|
|
|