|
مقال رئيس التحرير |
تأثيرات استخدام الذكاء الاصطناعي في الصناعات الثقافية
|
|
|
القاهرة 19 نوفمبر 2024 الساعة 11:01 ص
بقلم: د. هويدا صالح
يُحدث ظهور الذكاء الاصطناعي (AI) ثورة في الصناعات الإبداعية، ويغير بشكل كبير مشهد الفن التشكيلي والتصميم الجرافيكي والقصص المصورة (الكومكس) وصناعة الكتاب والموسيقى والإنتاج السينمائي وإنشاء المحتوى الإبداعي وصناعة الفيديوهات وغيرها من مجالات الصناعات الثقافية والإبداعية. وهذا التحول مدفوع بقدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز الإبداع وتبسيط العمليات وتوفير أدوات غير مسبوقة للفنانين والمبدعين.
يتخوف البعض من أن الذكاء الاصطناعي قد يحل محل البشر في مجالات الإبداع البشري، لكن البعض الآخر يرى أنه لن يحل محل الإبداع البشري، بل يعمل على زيادته. من خلال تحليل كميات هائلة من البيانات، يمكن لخوارزمياته توليد أفكار ومفاهيم جديدة قد لا تكون واضحة على الفور للمبدعين من البشر. على سبيل المثال، يمكن لأدوات التصميم المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تقترح لوحات الألوان والتخطيطات والأنماط بناءً على الاتجاهات الحالية وتفضيلات المستخدم. وفي مجال الموسيقى، يمكن للذكاء الاصطناعي تأليف مقطوعات تكاد تكون أصلية من خلال دراسة المقطوعات الموسيقية الموجودة، مما يوفر للملحنين مصدرًا جديدًا للإلهام.
وإحدى أهم مزايا الذكاء الاصطناعي في الصناعات الإبداعية هي قدرته على أتمتة المهام المتكررة والمستهلكة للوقت. على سبيل المثال، في التصميم الجرافيكي، يمكن للذكاء الاصطناعي التعامل مع مهام مثل تغيير حجم الصورة وإزالة الخلفية وحتى أعمال التصميم الأساسية، مما يسمح للمصممين بالتركيز على الجوانب الأكثر تعقيدًا وإبداعًا في مشروعاتهم الفنية. وبالمثل، في إنتاج الفيديو، يمكن للذكاء الاصطناعي أتمتة عمليات التحرير، مثل قص اللقطات وربطها، وتطبيق المرشحات، وحتى إنشاء ترجمات، وبالتالي تقليل الوقت والجهد المطلوبين بشكل كبير.
كما يوفر الذكاء الاصطناعي أيضًا للمبدعين أدوات لم يكن من الممكن تصورها من قبل، حيث يمكن للبرامج التي تعمل به إنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد واقعية، وإنشاء رسوم متحركة مفصلة، ??وحتى إنتاج فن رقمي واقعي للغاية.
وفي مجال الكتابة، يمكن لأدواته المساعدة في صياغة المحتوى، وتقديم اقتراحات للتحسينات، وحتى إنشاء مقالات أو قصص كاملة بناءً على مجموعة من التعليمات يتلقاها من المبدعين. وتعمل هذه الأدوات على إضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى الموارد الإبداعية عالية الجودة، وتمكين حتى أولئك الذين يتمتعون بمهارات تقنية محدودة من إنتاج أعمال على مستوى احترافي.
ولا يمكن أن ننكر أن مستقبل الذكاء الاصطناعي في الصناعات الإبداعية واعد. مع استمرار تطور التكنولوجيا فائقة السرعة، فمن المرجح أن تصبح هذه التكنلوجيا جزءًا لا يتجزأ من العملية الإبداعية؛ لذا لن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تعزيز الإبداع البشري فحسب، بل سيفتح أيضًا آفاقًا جديدة للابتكار والتعبير. ومن خلاله يمكن للصناعات الإبداعية أن تتطلع إلى مستقبل تعمل فيه التكنولوجيا والإبداع البشري جنبًا إلى جنب لدفع حدود ما هو ممكن، فالفوائد المحتملة لاستخدامه تفوق عيوبه بكثير.
يمكن تطبيق الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء الصناعات الإبداعية من خلال الرقمنة التي تعني تحويل الصور والصوت والنصوص، والمواد الخام للمحتوى الإبداعي، إلى بيانات وتحليلها باستخدام التعلم الآلي. وهذا يفتح إمكانيات جديدة لفهم النشاط الإبداعي كما هي الحال في الفن أو الموضة والتي قد يكون لها تطبيقات تجارية.
ويتم توسيع نطاق انتشار الذكاء الاصطناعي عبر المجالات الإبداعية من خلال التقارب الرقمي الذي يجمع القطاعات معًا. التكنولوجيا تؤدي إلى تقارب المجالات الإبداعية. على سبيل المثال، تُستخدم تقنيات تطوير الألعاب في صناعة الأفلام، كما هي الحال في تصوير مسلسل Game of Thrones. وهذا يعني أن التطورات التكنولوجية الرقمية، والتي يعد الذكاء الاصطناعي أبرز مثال عليها، يمكن أن تنتشر بسرعة أكبر إلى أنواع مختلفة من النشاط الإبداعي.
لكن يجب أن نعي أن الاستخدام الناجح للذكاء الاصطناعي التوليدي في الصناعات الإبداعية يكمن في إيجاد التوازن الدقيق بين الحفاظ على الإبداع البشري وجني فوائد الابتكار التكنولوجي. وعلى عكس القطاعات الصناعية الأخرى. ومع ذلك، فإن الحفاظ على اللمسة الإنسانية والأصالة التي تحدد ناتج الصناعات الإبداعية لا يزال يشكل تحديًا للصناعة والمجتمع.
وتلعب الصناعة الإبداعية دورًا مهمًا في الاقتصادات الحديثة، حيث تساهم في الناتج المحلي الإجمالي والنمو الاقتصادي للدول، وخلق فرص العمل والتنمية الثقافية في كل من الاقتصادات النامية والمتقدمة. على سبيل المثال، ساهمت الصناعات الإبداعية بمبلغ 109 مليار جنيه إسترليني في اقتصاد المملكة المتحدة في عام 2021، أي ما يعادل 5.6? من الناتج المحلي الإجمالي، وقد زاد هذا الاستخدام بكثرة في 2024 فقد أصبح قطاع الصناعات الإبداعية متنوعا للغاية وقطع أشواطا كبيرة بفضل استخدام الذكاء الاصطناعي، وقد شمل هذا القطاع: الإعلان، الهندسة المعمارية، التحف، التصميم، الأزياء، الأفلام، البرمجيات، الموسيقى، الفنون الاستعراضية، النشر، التلفزيون والإذاعة. وقدرت ميزانيته بـحوالي 125 مليار جنيه إسترليني، أي أكبر من قطاعات العلوم الحيوية، تصنيع السيارات، الفضاء، والنفط والغاز مجتمعة، ويوفر فرص عمل لما يقرب من 2.3 مليون شخص..
وفي الولايات المتحدة، ساهمت الصناعات الإبداعية بمبلغ 877.8 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لمكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي ووظفت أكثر من 3.6 مليون شخص في عام 2024، وفقًا لمكتب إحصاءات العمل الأمريكي.
وفي الهند، تساهم الصناعات الإبداعية بنحو 8? من العمالة في البلاد، وفقًا لبنك التنمية الآسيوي. بالإضافة إلى تأثيرها الاقتصادي الكبير، وخلق فرص العمل وتوفير خيار قابل للتطبيق من أجل تنمية مستدامة، فتعمل الصناعات الإبداعية على تعزيز الابتكار والمساهمة في رفاهية المجتمعات. ومن المرجح أن تؤثر التغييرات والاضطرابات والتحولات في الصناعات الإبداعية على الاقتصادات والمجتمعات بشكل كبير، وبالتالي تستحق اهتمامًا بحثيًا.
لكن، رغم ما توفره استخدامات التكنولوجيا الفائقة في مجالات الصناعات الثقافية إلا أن الأمر يثير مخاوف وشكوك الكثير من المبدعين في هذه المجالاتـ فكما شهدنا في عام 2023 إضراب الكتاب والممثلين لشهور في أحد أطول الإضرابات في تاريخ هوليوود بسبب استخدام الذكاء الاصطناعي من قبل الأستوديوهات في معركة للحفاظ على الإبداع البشري.
ومع ذلك فإن الصناعات الإبداعية، بما في ذلك الإعلان والتسويق والنشر وتكنولوجيا المعلومات (البرمجيات وخدمات الكمبيوتر) والتصميم (المنتجات والرسومات)، على استعداد للتحول الكبير مع ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، ويعود هذا التحول إلى قدرة التكنولوجيا على تخصيص المحتوى حسب التفضيلات الفردية وتحفيز الابتكار وتعزيز الكفاءة التشغيلية والتكيف السريع مع اتجاهات الصناعة المتطور، فالذكاء الاصطناعي التوليدي حليف قوي للصناعات الإبداعية، وهو قادر على تغذية الابتكار وتعزيز الاستكشاف الإبداعي، وقدرته على توليد أفكار جديدة، تصبح مصدر إلهام للمحترفين المبدعين، حيث يقدم وجهات نظر مختلفة، ويعمل كمحفز لمزيد من المساعي الإبداعية. وعلاوة على ذلك، فإن إنشاء بيانات التدريب الاصطناعية بواسطة نماذج الذكاء الاصطناعي هذه يحمل وعدًا في تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي الأخرى على اكتشاف الأنماط، واكتشاف الحلول، ودفع حدود حل المشكلات.
يعتمد الذكاء الاصطناعي على البيانات التي تلتقط الجوانب الاجتماعية والثقافية؛ لذا تلعب الثقافة دورًا مركزيًا في استخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. الثقافة تحتاج إلى معالجة في الخطاب العام والسياسات التي يمكن وضعها لتنظيم العملية الإبداعية ومدى اعتمادها على الذكاء الاصطناعي، فحتى الآن، الأمر لا يتم بشكل منهجي، ولم توضع قوانين محددة بالأطر الأخلاقية لعملية الإبداع التي تنظم استخدام التكنولوجيا في هذه الصناعات التي تعتمد على الثقافة بوجه عام.
وقد أظهرت التقارير الأخيرة أن الذكاء الاصطناعي دخل سلسلة القيمة الإبداعية على كل المستويات: الإبداع، والإنتاج، والنشر، والاستهلاك. يمكن للذكاء الاصطناعي أتمتة المهام ضمن هذا المسار؛ لذا يجب البحث عن حوافز لدمج هذه التكنولوجيا في سوق الصناعات الثقافية، حتى يتم تسهيل الاستخدام من خلال التقدم في الإنشاء الخوارزمي لمحتوى الوسائط الجديد باستخدام النماذج التوليدية القائمة على الذكاء الاصطناعي في جملة من المجالات وكما أشرنا سابقا لعل أشهرها الموسيقى، تأليفا وتلحينا، وكتابة النصوص وتحريرها، صناعة الصور أو مقاطع الفيديو. بل تطور الأمر ليشمل جميع جوانب سلسلة الإنتاج السمعي البصري، مما يثير أسئلة مهمة. على سبيل المثال، يتم إتقان الموسيقى عادةً في الاستوديوهات الاحترافية ويمكن أن تكون باهظة الثمن بالنسبة للفنانين، فيمكن للأدوات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أن تساعد هؤلاء الفنانين في إنشاء إنتاجات موسيقية عالية الجودة يمكنهم مع البحث عن وسائل قانونية تراعي حقوق المبدعين الذين تمّ استخدام إنتاجهم لتغذية الخوارزميات التوليدية.
لكن يجب على المؤسسات الثقافية أن تكون واضحة بشأن ما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفعله أو لا يستطيع فعله، وأينما يستطيع الذكاء الاصطناعي ذلك. وكيف يمكن إجراء تقييم الجودة، وما هي الموارد التي يجب تخصيصها . وتحديد مجموعة الاعتبارات التي يجب مراعاتها عند اتخاذ قرار باستخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات الصناعات الثقافية.
كذلك يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات الصناعات الثقافية جملة من القضايا التي تحتاج إلى مناقشة جادة مثل دور المشرعين والمنصات الإعلامية في ضبط الثقافة والإبداع، وتوزيع المحتوى من أجل منع التمييز أو نقص التمثيل. ومناقشة خطر العنصرية التي يمكن أن تثيرها خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد بالأساس على ما يتم برمجتها عليه من خلال مركزيات ثقافية قد تتعمد تهميش مكونات ثقافية بعينها، فعلى سبيل المثال في أمريكا يتم برمجة الروبوت الفائق الذكاء على ماضي وتراث أمريكا البيضاء، ويتم تهميش المنتج الثقافي والإبداعي للسكان الأصليين، أو أن يتم برمجة الذكاءات الاصطناعية على المنتوجات الفكرية والثقافية للعنصر الثقافي المسيحي مثلا على حساب الديانات الأخرى التي تتقاسم الوجود الفعلي في بلد ما، وهكذا يمكن إقصاء وتهميش عناصر ثقافية بعينها على أساس الجنس أو العرق أو الطائفة الدينية أو الطبقة الاجتماعية.
وقد تم مؤخرًا اقتراح الأطر الأخلاقية التي يجب أن تحكم عملية استخدام الذكاء الاصطناعي في الصناعات الثقافية، مما دفع التأكيد على أهمية إنشاء خوارزميات مسؤولة وشفافة وشاملة. توفر الأطر الأخلاقية التي تحكم تلك العملية وتراعي جميع العمليات التي تمكن من صياغة السياسات والتدابير لحماية المصلحة العامة، وتحديد درجات أوضح للمسؤولية في الحالات التي ينتج فيها استخدام التكنولوجيا عواقب غير مقصودة.
ويثير استخدام الذكاء الاصطناعي في المحتوى الإعلامي قضايا تتعلق بالتنوع الثقافي واللغوي. - هناك بحث نشط حول مراعاة التنوع الثقافي واللغوي فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي. - السياسات والتدابير العامة مطلوبة لمنع كافة أشكال التمييز في مجال الذكاء الاصطناعي.
|
هل لديك تعليق؟
الاسم : |
|
البريد الالكتروني : |
|
موضوع التعليق : |
|
التعليق : |
|
|
|
|
|
|
|
|
|