القاهرة 22 يناير 2013 الساعة 01:55 م
فى العشرين من يناير سنة 1968 ،كمل قرن على ميلاد محمد فريد ،الذى ولد فى القاهرة،لأحد كبار موظفى الدولة الذين اجتمع لهم جاه المنصب ،ونفوذ الحاكمين ،وثراء الأغنياء فقد كان والده أحمد فريد باشا الذى اختير ليكون ناظرا للدائرة السنية فى سنة 1886. وقد كانت الدائرة السنية تديرمساحة ضخمة من الأطيان التى كانت ملكا خاصا للخديو إسماعيل ،وقد لعبت فيما بعد ،حينما تدهور مركز مصر المالى ،وكثرت ديون الأجانب عليه ،دورا كبيرا ،فى تسوية تلك الديون ،وفيما قدم لها من ضمانات . ومحمد فريد لا يذكر اسمه ،حتى يقول كل الناس أنه الزعيم الذى ضحى بماله وصحته وراحته وأسرته ،فمات منفيا فى الخارج ،مريضا بعيدا عن الأهل والصحب ،لا يجد ما يتداوى به ولا ما يرد عنه غوائل البرد القارس ، الذى يفتك بالفقراء ،ويحيل حياة الأصحاء منهم - دع عنك مرضاهم- جحيما لا يطاق . فالمصريون يفرون بفضل محمد فريد،وبأفكار لذاته ،وبتحمله ما لم يتحمله سواه من زعماء مصر ،من الآلام والأحزان . وأن صموده الباهر ،فى وجه القوى العاتية المتألبة عليه ،من مستعمرين وأولياء الأمرالمصريين،مثلا فريدا فى الثياب ، والاستمساك بالعقيدة ،التى استحالت حجرا منقدا فى يد المتشبث بها. لكن الجانب الذى بقى مضمرا فى حياة محمد فريد،والذى أن الأوان ،لأن ترفع عنه الأستار ،وتسلط عليه الأضواء ،ويتجه إليه الباحثون ،ويقف عليه المواطنون ،هو جانب الريادة الفكرية الاجتماعية فى كفاح محمد فريد . فمحمد فريد ارتاد من مجاهل حياة بلاده الروحية ،والفكرية ما سبق به جيله، وأكثر زملاء الأجيال التى جاءت بعده . وليس محمد فريد .أول رجل من رجالات الأمم يظلمه التاريخ العرفى ،لأن التاريخ العرفى غير مدون ،لا يحب لإبطاله إلا الصور الواضحة ،فإن تداخل فى خلق الصورة عنصران ،ضحى التاريخ العرفى بأحدهما وأبرزالثانى ،فمحمود سامى البارودى ،عند التاريخ هو الشاعر ،وليس السياسى ،وأن ذكر مع العرابيين فى ثورتهم ،وابن خلدون هو صاحب المقدمة المشهورة ،دون الكتاب الذى قدم له بهذه المقدمة ،ودون عمله السياسى الصاخب ،ونشاطه القلق ،فى بلاد العربية ،بلدا بعد بلد ،وقطرا بعد قطر.
وقد غمط التاريخ محمد فريد،جريا على هذا المنهج المحبب إليه ،فذكر عشرات من المجددين ، والرواد ، فى عالم الفكر ،والاجتماع ، ولم يذكر محمد فريد ،من بيهم ،أو لم يذكره بالقدر الذى يستحقه . والواقع ، أن محمد فريد كان من السابقين فى دنيا الفكر ،متحديا ،لأوضاع المجتمع التقليدية مجددا فى أساليب الكتابة ،وفى مناهج السياسة ،وقد قادته ثورته الفكرية والاجتماعية إلى السياسة ،فبقى يمزجها ،بنظراته الاجتماعية ،حتى آخر يوم فى حياته ،فقد كانت كلها،وحدة متكاملة تقوم على أساس من عقيدته التى ترفض الظلم والتمييز المجحف بجميع صوره ،وتحارب الاستغلال ، والاكراه فى كل أشكاله ،وتدعو إلى الحرية ،حرية شعبه وأمته ،وحرية الأمم والشعوب كافة ،وحرية الطبقات المضطهدة والمغلوبة على أمرها .
حياته الفكرية
بدأ حياته الفكرية يكتب مذكراته السياسية ،وهو شاب أقرب إلى أن يكون صبيا ،فقد شرع وحرر مذكراته ابتداء من سنة 1891 ،وكان وقتئذ فى الثالثة والعشرين من عمره ،وراح يحدث نفسه ويناجيها فى هذه المذكرات ،ويعلق على أحداث السياسة تعليقا يقطر جدا وصرامة،فقد علق مثلا على استقالة حسين فخرى باشا فى ديسمبر سنة 1891،فقال أنها استقالة فى الظاهر ،وطرد فى الواقع وأن هذا الباشا ،يستحق أن يطرد لأن الاستقالة المشرفة أتيحت له مرتين ،حينما فرض عليه الإنجليز وهو وزيرالحقانية (العدل)المستشار (اسكوت )البريطانى ،وهى مناسبة تستحق أن يترك منصبه من أجلها – ولكنه ضحى بالشرف –من أجل الوزارة ،فحرم من الوزارة و الشرف معا.
ثم أخذ يؤلف الكتب فكان باكورة كتبه بحثا فى تاريخ مصر فى عهد محمد على ،وقد طبع هذا البحث فى سنة 1891 – ثم أردفه بكتاب كبير تجاوزت صفحاته الثلاثمائة عن تاريخ الدولة العثمانية وقد نفذت الطبعة الأولى ،فأعاد طباعته بعد أن أضاف إليه ،بابا كاملا عن الخلافة العربية .منذ عهد الرسول ،ليكون كتابه شاملا للخلافتين العربية والعثمانية ، والباب الخاص بالخلافة العربية يدهشك إيجازه وشموله للحقائق الرئيسية ،أما الباب الخاص بالخلافة العثمانية ،فقد درس فيه العلاقات الدولية ،بين تركيا ،والدول الأوربية ،وقد كانت هذه العلاقات ،محورالسياسة العالمية ،ومثار التنافس و التحالف وانقسام المعسكرات بين الدول الكبرى ،ويبدو من لغة الكتاب وأسلوبه ،وجمعه للحقائق التاريخية والسياسية والتعليق عليها ،أن الكاتب راسخ القدم ،وأن النظر فى أمور السياسة ،هو هوايته المحببة ،وصناعته المستقبلة ،وكان أنذاك فى السابعة والعشرين ،وهى فترة مبكرة لا يستسيغ الشباب فيها ،طعم البحوث الدولية ،ثم أخرج فى سنة 1902 ،كتابه عن تاريخ الرومان . وقد كان تأليف الكتب باللغة العربية فى تلك الفترة ، نشاطا استأثر به أو كاد الوريون واللبنانيون ،ولم يسهم فيه من المصريين إلا قلة ،كان أغلب أفرادها ،أن لم يكونوا جميعا من المصريين الذين أوفدتهم الحكومة للدراسة فى الخارج ،فأثار احتكاكهم بالحياة الغربية ،وإطلاعهم على ثقافتها ،وجدانهم وحفزهم على التأليف . فرفاعة الطهطاوى ،على مبارك ،وعبد الله فكرى ،وأحمد شوقى كانوا جميعا مبعوثين رسميين للدولة . على أن الذى يستحق أن نطيل الوقوف أمامه ،وأن نطيل التأمل فيه ،هو اللغة السهلة البسيطة الواضحة ،التى تذهب إلى الغرض فورا ،والتى اصطنعها محمد فريد ،منذ اليوم الأمل الذى امسك فيه بقلم ،وأجره على ورق،فلغته لغة العلم والتى خلصت من المقدمات الطويلة ،والمنحنيات البلاغية ،وكأنها لغة اليوم. خذ مثلا على ذلك ،ما جاء فى مقدمة كتابه عن الدولة العثمانية قال :
"العالم أجيال متعاقبة ،يخلف اللاحق فيها السابق ،ويورثه معارفه ،صحيحها ،وفاسدها ،وأخلاقه :حسنها وقبحها. وأعماله :تامها وناقصها ،ويضيف إلى ذلك معلوماته الخصوصية وتجارب الذاتية ،فيكون بذلك مدينته العصرية فإذا قام الخلف الشاب بالواجب عليه لعصره ،واتخذ له من تجارب الشيخ مصباحا ،استنارت له سبل السعى ،وانفتح أمامه الأمل ،فيرقى فى درجات المدينة بمقدار ما صرمه من العناء فى العمل –وما أحرزه من معارف السالفين"
الشيخ على يوسف :
ولكن محمد فريد الذى قلنا أن حياته الداخلية ،التى صيغت فى مذكرات هى أكبر إثارة ،لم يقنع بهذه الثورة الداخلية يناجى بها نفسه ،والتى تسجل اضطرأمها وتعلن عنه ،فى كتب لا يتداولها إلا القليل ،فخرج من دنياه الرصينة . التى يجرى فيها كل شىء على سنن من الوقار ،واحترم ما هو كائن ،والتى تسودها التقاليد الموروثة ،وآداب العلية التى لا تعرف انفعالا ،وأن عرفت فلا تعبرعنه ،خرج من هذه الدنيا ،دفعة واحدة ،وبلا مقدمات ،ولا استئذان هذه التقاليد الشامخة الثابتة ،التى لا يجول بخاطرها قط ، أن شيئا يمكن أن يخرج عن نظامه المألوف ،وأسلوبه المعوف،فقد دفع القلق المقدس المبكر،محمد فريد بك وكان أذ ذاك قد أصبح وكيلا للنائب العام ،إلى محكمة عابدين الجزئية ،لا ليجرى تحقيقا مع منهم ،ولا ليترافع فى قضية ،قياما بواجبه المرسوم له ،بل ليشهد فى نوفمبرسنة 1896 إحدى جلسات المحكمة .وكانت تنظر قضية مثل فيها أمام القضاء الشيخى على يوسف صاحب جريدة المؤي،ورئيس تحريرها ،وتوفيق أفندى كيرلس ،الموظف بمكتب تلغراف الأزبكية ،لا تهامهما بأنها أفشيا أسرار حربية ،تتعلق بوضع الجيش المصرى ،فى السودان بعد أن انتشر فيه وباء الكوليرا ولم يقنع محمد فريد ،بالخروج عن المألوف ،بحضوره،هذه القضية السياسية ،كواحد من جمهور قاعة المحكمة ،بل أنه لم يخف سروره،وابتهاجه،حينما قضت المحكمة ببراءة المتهمين كما لم يخف عطفه عليها فطاش صواب الدوائرالحكومية مصرية وبريطانية وطار أى مطار ،فنقلت عقب الحكم ،بلا تحرج أو حياء ،القاضى على توفيق ،الذى حكم بالبراءة من محكمة عابدين ،التى كان يجلس فيها للقضاء منفردا إلى دائرة ثلاثية بمحكمة القاهرة الإبتدائية ،ثم نقلت محمد فريد إلى الصعيد ،فحدث ما كاد يكون زلزالا فى عالم الحكومة ورسمياتها فقد استقال فى وجه الحكومة ،وكأنه يصفعها ،ولوأردنا أن نعرف مدى ما فى هذه الاستقالة ،من خروج على التقاليد المرعية ،علينا أن نذكر أن العقاد ،حينما استقال من وظيفة كتابية صغيرة فى مديرية الفيوم ،قال إن استقالة كانت أمرا غير مسبوق ،لأن الناس كانوا متشبسين بأهداف الوظيفة الحكومية ،إلى حد أن عدد المنتحرين فى تلك الأيام ،كان أكثر من عدد المستقيلين :ولم تكن وظيفة محمد فريد ،مجرد وظيفة حكومية لأن وظائف القضاء كانت وقفا على أولاد الباشوات والبكوات ،فى الأغلب والأعم،وكانت خطوة نحو وظيفة إدارية كبيرة كوكالة لوزارة،أو إدارة لمديرية أو محافظة ،تؤدى بدورها إلى الوزارة ،ولكن مهما أردنا أن نغالى فى تقديراستقالة محمد فريد من وظيفة القضائية ودلالتها الروحية فأن أقدامه على الاشتغال بالمحاماة ،واتخاذها عملا له،يكسب منه رزقه ،كان إجراء عنيفا على مقدسات العائلات الكبيرة ،التى كانت عائلة محمد فريد ،واحد من كبرياتها ،فأولاد الباشوات والبكوات،كانوا لا يسعون إلى تحصيل رزقهم قط .لأن هذا الرزق،مكفول من إيراد أطيان تؤول إليهم عن الأباء والأجداد،أوعن وظائف كبيرة يرثونها كما يورث العقار. كانت المحاماة فى تلك الأيام لا تزال تدفع عن نفسها مظنة السوء إذ لم تكن قد تمتعت بعد هذه الكوكبة اللامعة من رجال عرفوا أكثرما عرفوا بالنزاهة والأمانة والصدق ،كما عرفوا بالكفاية والشجاعة والعلم .هذه الكوكبة التى ضمت أحمد لطفى ،وعبد العزيزفهمى ،وويصا واصف ،وأضرابهم . ولذلك كان محمد فريد فى حاجة إلى رصيد عظيم من الثقة بنفسه ،وبالمحاماة معا ،حينما قررأن يهجر وظيفته المرموقة ،بمرتبها الثابت ،إلى مهنة ،لا نجد أبلغ من وصف كرة المجتمع التقليدى لها، مما رواه لطفى السيد ،فى مذكراته ،من أنه رأى أحمد باشا فريد ،والد محمد فريد يبكى وهو يندب حظه فى ولده الذى(فتح دكان أبو كاتو)فقد كان مكتب المحامى ،عند فريد باشا،(دكان)،وكان العمل فى هذا الدكان مصابا يستحق الذين ينزل بهم المواساة من الأهل والأصدقاء ،وإذا كان ترك وظيفة القضاء عملا عنيفا ،فإن محمد فريد ،أقدم على عمل هادئ لا يلتفت إليه أحد ،ولا يمكن أن يستخرج منه معنى ثوريا ،وأراه أعظم دلالة على طابع محمد فريد الفكرى ،وطموحه الروحى ،واستشرافه للدورالقيادى الذى اضطلع به ،وأدى ضرائبه على أحسن وجه ما يكون الإنسان سخاء وبذلا.
رحلات وسياحات
فقد راح محمد فريد ،يجوب الأقطار فى رحلات وسياحات ،قد كان كبراؤنا لا يعرفون إذا سافروا ،إلا كارلسباد وفيتس وأيفيان ،إذا قصدوا الاستجمام،وبارس إذا طلبوا الاستماع ولا شىء وراء ذلك . ولكن محمد فريد زار تونس والأندلس ومراكش وطرابلس الغرب ،ووضع فى هذه الرحلات كلها رسائل وزعها بالمجان ،يثير بها اهتمام مواطنيه بهذه الأقطار التى تكمل عالمنا وتربطنا بها الوشيجة بعد الوشيجة ثم سافر إلى النرويج ،وشهد الشمس فى منتصف الليل ،ثم ذهب إلى الجزائر ليحضر مؤتمرالمستشرقين . على أن الاهتمام الذى بذله جميع أقرانه،ومن تلاهم هو شغفه بشئون أسيا وإفريقيا ،ولم يكن هذا الشغف فقط ،قراءة وإطلاعا ،بل كانت كتابة وبحثا ،وأنا واجدون صدى هذا الشغف فى مقالاته التى كتبها فى المجلة نصف الشهرية التى أخرجها مع زميله محمود أبو النصر المحامى ،وقد اسمياها رد الموسوعات .
فكان اسمها دليلا آخر على طموح فريد العلمى ،وقد واظب فريد على تناول مسائل الاستعمار فى إفريقيا وأسيا ،ففى عددى 13و27 من يناير سنة 1899 حدث قراءة عن رحلة الرحالة (سفن هدين )فى أواسط أسيا ،وفى عدد 26 من إبريل حدثهم عن (إنجلترا وفرنسا بإفريقيا )وفى 8 من أغسطس عن (كيف ضاع استقلال جزائر هاواى)وفى العدد 21 من سبتمبر (انجلترا والترنسفال)ثم عن (روسيا فى أسيا )فى 16 من يناير سنة 1900 ثم يعود إلى (حرب الترنسفال )فى 5 من فبراير ثم عن (الشركة الإنجليزية الإفريقية )فى عدد 30 من مارس . لم يكن الإطلاع على مجريات الأمور العالمية ،محببا لدى ساستنا وكان قصارى جهدهم أن يلموا بطرف يسير مما يجرى فى لندن وباريس من برقيات الوكالات البريطانية والفرنسية ،رويتروهافاس وكان المبرز منهم من يطالع كتابا بالإنجلزية أو الفرنسية عن شأن من شئون المال أو السياسة ،ولكن أن يعد أحدهم نظرة ،إلى خلف الستارالحديدى الحقيقى ،المضروب على إفريقيا وأسيا وما يجرى فيهما لحساب الاستعمار ثم أن يتبين قيمة الوقوف على هذا النشاط الخفى الرهيب ،فى الدفاع عن حقوقنا ،فأمر لا يخطر على بال ،ولذلك كان محمد فريد ،فى هذه المتابعة اللفظية الذكية المتسمة بالدأب والمثابرة ،فذا ،وكان بلا جدال ،سياسيا من الطراز العالمى ،الذى يصلح لقائد أمة تقع من العالم فى مركز دائرته وتضم إليها باليمين واليسار ،خيوط السياسة فى اتجاهها من الشرق إلى الغرب ،ومن الشمال إلى الجنوب . آلت الزعامة إلى محمد فريد بعد أن توفى مصطفى كامل إلى رحمة الله فى العاشر من فبراير سنة 1908 ،فظهرت فى الحال ،آيات نضجه ،التى لاحت منذ صباه وشبابه المبكر ،فبدأ أولا بتهنئته عناصر حركة شعبية واسعة النطاق ،للمطالبة بالدستوروأعلن أنه لا يطلب الدستور من بريطانيا ،ولا يوافق على ما يقوله الإنجليز من أن الخديو لا يستطيع أن يعلن دستورا مصريا إلا بعد إذن من بريطانيا . وقد تفرغ على هذه السياسة الداخلية السلمية ،أنه اعتبر أن مناط نجاح الحركة الوطنية ،أن تكون حركة جميع طبقات الشعب وأن تتسع للموظفين و الطلبة ،اتساعها للعمال والفلاحين ،وقد أعانه على إبراز هذه المعالم للحركة التى قادها ،أن الخديو عباس بعد طول ممالاته للحركة الوطنية ،على أمل أن تكون مطيته ،ما فقده من سلطان ،على يد الاحتلال أدرك أن هذه الحركة بعد أن شبت عن الطوق ،والتفت إليها وجدان الأمة فى حادثة دنشواى أصبحت أكبر من أن يحتويها ،أو يهادنها ،فإما أن يجرى فى مسارها ،وأن يعتنق مبادئها ،وأن يقف معها وإما أن يحاربها ويحاول تضييق نطاقها ويقف مع أعدائها ،فوقف مع الاحتلال ،وابتدأت سياسة الوفاق التى أعلنها ونفذها فى السرالدوق جورست،بعد سياسة المشاكسة ،التى طبقها اللورد كرومر وكانت أولى مواد هذه المحالفة الجديدة بين الخديو ،ودار الاحتلال المعروف (بقصر الدوبارة)مطاردة محمد فريد ،واضطهاده واضطهاد جرائد الحزب الوطنى ،ومصادرتها .
فى السجن
وقد زج بمحمد فريد فعلا إلى السجن ،فى مناسبة ،تليق به وتتفق مع صفاته وخصائصه العقلية والروحية فقد جمع الشاب على الغاياتى الطالب الأزهرى ،قصائد وطنية له فى ديوان انتهى أمره بعد ذلك ،وهو (ديوان وطنى)-وطلب إلى محمد فريد أن يقدم له ،فلبى فريد الدعوة ،كتب فى هذه المقدمة:
"الشعر من أفعل المؤثرات فى إيقاظ الأمم من سباتها ،وبث روح الحياة فيها كما أنه من المشجعات على القتال وبث حب الأقدام والمخاطرة بالنفس فى الحروب ". "لقد كان من نتيجة استبداد حكومة الفرد سواء فى الغرب أو الشرق ،إماتة الشعرالحماسى ،وحمل الشعراء بالعطايا والمنح على وضع قصائد المدح البارد ،والاطراء الفارغ ،فى الملوك ،والأمراء ،والوزراء ،وابتعادهم عن كل ما يربى فى النفوس ،ويغرس فيها حب الحرية ،والاستقلال . تنبهت لذلك الأمم المغلوبة على أمرها ،فجعلت من أول مبادئها وضع القصائد الوطنية والأناشيد الحماسية ،باللغة الفصحى ،للطبقة المتعلمة وباللغة العامية لطبقات الزراع والصناع ،وسواهم من العمال غيرالمتعلمين فكان ذلك من أكبر العوامل على بث روح الوطنية فى جميع الطبقات ،ثم قال : "ومما يزيد سرورى أن شعراء الأرياف وضعوا عدة أناشيد وأغان ،فى مسألة دنشواى ،وما نشأ عنها ،وفى المرحوم مصطفى كامل باشا ،ومجهوداته الوطنية ،وفى موضوع قناة السويس ،ورفض الجمعية العمومية لمشروعها ،وأخذوا ينشدونها فى سمرهم وأفراحهم على آلاتهم الموسيقية البسيطة .وهى حركة مباركة إن شاءت ،فهى تدل على أن مجهودات الوطنيين قد أثمرت ووصل تأثيرها إلى أعماق القلوب فى جميع طبقات الأمة ،وتبشر باقتراب زمن الخلاص من الاحتلال ،ومن سلطة الفرد بأذن الله ".
وواضح أن هذه السطور القليلة على بساطة عبارتها ،تحوى برنامجا كاملا فى الثقافة الوطنية والجهاد الوطنى معا .فالأدب الوطنى عند محمد فريد ،هو الذى يوجه إلى الشعب بكل طبقاته :من متعلمين وغير متعلمين ،فى المدن والريف ،بالفصحى وبالعامية ،بالآلات الرفيعة ،وبالأدوات البسيطة .
ثم هو يرى فى جيشان الريف ،فى حفلات السمربانفعلات تبعثهاالأحداث الوطنية ،وبالأغانى التى تدور حولها وتستوحى منها كعانيها بشيرا بخيرين :الخلاص من الاحتلال ،والخلاص من حكم الفرد معا . إما أن يكتب زعيم سياسى مقدمة لديوان شعر ،فهو فى ذاته علامة من علامات اليقظة الروحية والفكرية . ولقد أراد الاحتلال أن يتوج هذا العمل الفريد الممتاز ،بما يستحقه من الاحتفال و العناية ،فقد حبس محمد فريد من أجل هذه السطور ،التى لا يستطيع أى قانون ظالم أن يرى فيها جرما. ولكن الاحتلال ،لا تقيده الأوضاع التى يرتضيها منطق العدالة التقليدية ،فقد كان محقا للغاية ،إذ رأى فى هذه السطور ،برنامج حركة ثقافية ووطنية ،تريد أن توحد فى هدف واحد للقضاء على حكم الفرد ،وحكم الأجنبى ،وأن توحد فى جيش واحد ابن المدينة وابن القرية والموظف والطالب ،والفلاح والعامل وليس أخطر على الاحتلال من هذا التوحيد ،سواء رضى القانون أو غضب .
لا مساومة
وقد كان حبس محمد فريد ،مساهمة اجتماعية ووطنية منه ،لا تقدر بمال ،فقد كان دخول قاض سابق ،وابن باشا ،من كبار الأعيان موصول النصب بالخديو والعائلة المالكة ،من أجل أفكار ضمنها مقدمة لديوان شعر ،تحولا فى حياة المصريين ،جعل العمل السياسى ضريبة فادحة تؤدى ،وليس ترفا ذهنيا ،يستمتع به الذى يمارسه ،بعيدا عن مشاق الميدان ،وقد كان مسلك محمد فريد قبل السجن ،وبعده،تشريفا للوطنية المصرية ،ومثلا ينير طريق المجاهدين الذين سيأتون بعده . فقد كان محمد فريد ،خارج البلاد عندما أعلنت النيابة قرار اتهامه ،فعاد إلى مصر توا بلا تلكؤ ،ولما صدرالحكم بحبسه ،خيل للخديو أن وجود محمد فريد فى السجن ،هو أصلح مناسبة لمساومته فرفض فريد المساومة ،واحتقرها ،ولما خرج من السجن ،أعلن أن السجن لم يزده إلا صلابة ،وقد أدرك الاحتلاليون ،المكانة التى وصل إليها ،بهذا السجن ،فأطلقوا سراحه ، فى الساعات الأولى من النهار وأكثر الناس نيام ،ولكن المصريين تسامعوا بنبأ الافراج عنه فكانت مظاهرة .
ولسنا نود هنا أن تنعقب وقائع كفاح محمد فريد السياسى ،وإنما نود أن نبرزمعالم ريادته الاجتماعية ،وقد ظهرت بعض هذه المعالم ،فى كتاب وضعه الحزب الوطنى كتقرير سنوى له ،فى 25 ديسمبر سنة 1908 وهى السنة التى آلت فيها الزعامة إلى محمد فريد ،وقد كان هذا الكتاب فى 239 صفحة ،وقد قسم إلى قسمين رئيسيين ،أولهما عنوان "بالحركة العمومية الأهلية "والثانى "فى حياة مصر وشئونها ". أما القسم الأول فقد اشتمل على فصول منها فصل عن الحركة التعليمية ابتداء من الكتاتيب إلى الجامعة ،وقد تضمن هذا الفصل بصفة خاصة ،الرد على خطبة سعد زغلول وزير المعارف فى مارس سنة 1907 فى الجمعية العمومية ،وهى الخطبة التى رفض فيها سعد أن يكون التعليم فى المدارس المصرية باللغة العربية مصرا على أن يكون التعليم باللغة الإنجليزية . والفصل الثالث عن الأحوال الزراعية والنقابات الزراعية ،والعماية بصحة الفلاح وتأمين الفلاح على نفسه ومحصوله وماله . والفصل الرابع عن الصناعة . والخامس عن التجارة . والسادس فى الأزمة المالية. وكان من أهم قرارات المؤتمر السنوى برياسة محمد فريد ،انشاء مدارس الشعب لمكافحة الأمية بنوعيها العلمى والسياسى ،وهى المدارس التى كان يعلم فيها محمد فريد وأنصاره عبد العزيز جاويش وأحمد لطفى وعمر لطفى ،العمال وأرباب الحرف الصغيرة . امتلأت الحركة الوطنية بزاد جديد ،فخرجت جموعها فى 30 مارس وأول إبريل سنة 1909 ،احتجاجا على صدور قانون المطبوعات الذى قيد حرية الصحافة ،بعد أن أدرك الاحتلال والخديوأن الملاينة التى كانوا يصطنعونها فى عهد مصطفى كامل ،لم تحقق ما كانوا يرجونه ،من تبديد أبخرة الغضب الوطنى ،فى مقالات وخطب حماسية وقد كان من عنف الاحتجاج أن احتاج هرفى باشا حكمدار العاصمة الإنجليزى فى مكافحة المظاهرات ،بخراطيم الماء أولا ،ثم بقوات الجيش ثانيا. وأحسب أنه من المفيد أن أنقل إليك فقرات من خطاب فريد فى الاجتماع السنوى للحزب :
يجب أن يكون قصدنا جميعا الوصول إلى جعل التعليم الإبتدائى إلزاميا ومجانيا لكل مصرى ومصرية . الديمقراطية الحقة والمساواة الحقيقية ،تقتضيان بأن يكون التعليم الإبتدائى مجانيا لجميع طبقات الأمة،فقيرها وغنيها ،حتى يشب التلاميذ على حب المساواة ،ويعرفون منذ نعومة أظافرهم ألا تفاوت بين الناس إلا بخدمة الوطن .
التعليم الإبتدائى وحده غير كاف لحاجات الأمة ،فإن الأمم لا ترقى إلا بالتعليم الثانوى و العالى . الفلاح المصرى أتعس فلاح فى العالم ،أتعس من الفلاح الروسى ،الذى يضرب بشقاؤه المثل ،ولا خلاص له من هذه الحالة إلا بنشر التعليم الإبتدائى وجعله إجباريا وبتشكيل نقابات زراعية للدفاع عن حقوق الفلاح أمام الحكومة وأمام الملاك الذين يزيدون عليه الإيجارات بمناسبة وغير مناسبة ،وأمام المرابين الذين يأخذون منه ما يبقى له بين جشع الملاك وظلم الحكومة . نقابات العنال قوة هائلة تخضع لها الحكومة وتطاطئ رأسها أمامها . لا سبيل لإيجاد هذه الحركة المباركة حتى يصبح الصانع والزارع فى مأمن من الفقر والتكفف عند الشيخوخة أو المرض أو لتحسين حالته المعاشية إلا بالإكثار من المدارس الليلية فى المدن والقرى ،لتعليمهم حقوقهم وواجباتهم وتفهيمهم أهمية النقابات وشركات التعاون . عليكم يا إخوانى بنشر مبادئ التعليم بين هذه الطبقة التعيسة : طبقة العمال ،وتأسيس الحرية للتبرع بالقليل من وقتهم فى إلقاء الدروس والمحاضرات النافعة فى هذه المدارس والجمعيات حتى يترقى العامل الفقير ،ويدرك أن له حقا فى أن يعيش عيشة لا كعيشة البهائم . فى القاهرة أحياء برمتها لا ينفذ إليها نور الشمس نهارا ،ولا يوقد فيها مصباح ليلا ،ولا تعرف للكنس والرش اسما. وهاجر محمد فريد فى سنة 1912 إلى تركيا لما اقتنع بأن بقاءه فى مصر ،فى قبضة الاحتلال البريطانى معا ،فلجأ أول الأمر إلى استنابول عاصمة تركيا ،ثم تركها لما ضاق به زعماء الحكومة العسكرية التى كانت تحكم تركيا أنذاك بزعامة أنور باشا ،لأنه كان يطالبهم بأن يعلنوا بأن استقلال مصر ،غايتهم من حملة عسكرية كانوا قد أعدوها لغزو مصر من ناحية القناة فى سنة 1915 أبان الحرب العالمية الأولى . خرج من تركيا إلى سويسرا ،ثم انتهى به المطاف إلى ألمانيا. وفى هذا العالم الفسيح والضيق معا ،كافح فريد ،بكل ما يملك ،بقلمه ولسانه ،بجاده الذى فاق كل مثل ،واحتماله الذى لم يكن معينه لينضب ،احتمال انفضاض الانصار طوعا أو كرها . فى هذا العالم الفسيح ،لبعده عن سلطان الخديو والإنجليز وحكومة الأتراك ،والضيق لظروف الحرب العالمية ،وتوجيس الحكومات من كل حركة. وخشيتهم من كل زعيم ،بذل فريد أخر ما يملك ،وكأنه قائد الفرقة الموسيقية ،المريض الذى استمر يقودها ،حتى نهاية العزف ،حتى وصل إلى أعلى قمم المعزوفة ،وأشدها إثارة للخواطر ،وأهاجة للنفوس ،وهو يشكو ألما حادا فى جانبه وفى صدره ،وفى رأسه ،وفى عينيه . لم يترك فريد منبرا عالميا حتى ارتقاه ،ولا هيئة داعية لنصرة الشعوب والأمم إلا وربط نفسه فيها ،وتعاون معها ،وكتب إليها . وتلقى كتبها ،خطب فى مؤتمر السلام باستوكلهم فى أغسطس سنة 1910 وفى 10 أغسطس أيضا ،أدلى بحديث إلى جريدة "الادمالبتيه"التى كان يصدرها الزعيم الاشتراكى "جان جوريس" وعاد فحضر مؤتمر السلام فى جنيف سنة 1912 كما حضر مؤتمر السلام فى لاهاى فى أغسطس سنة 1913 ثم مؤتمر الأجناس الضطهدة فى لندن فى فبراير سنة 1914 ثم مؤتمر الأجناس فى يونيه 1916 ،والمؤتمر الدولى الاشتراكى فى 10 يونية 1917 وأرسل إلى المؤتمر الدولى الاشتراكى المنعقد فى فبراير سنة 1919 فى برن ،خطابا ،كما أرسل خطابا آخرإلى المؤتمر الاشتراكى الدولى فى أغسطس سنة 1919 باوسرن بسويسرا. وكم ردد اسم مصر ،فيما يكتب وفيما يقول ،وكم سمع منه الاشتراكيون والأحرار ،والإنسانيون الحديث عن بلاده ،وعن خطر الاحتلال البريطانى على السلام العالمى ،وعلى مستقبل الإنسانية . واشتد عليه المرض ،وأدرك فريد أنها النهاية ،ولكنه كان يعتقد أن البذور التى ألقاها هو بعده فى أرض مصرالخصبة الحية ،وعلى ضفاف النيل العظيم الخالد لابد أن تثمر ..ولابد أن يرى هو بنفسه بواكيرها إن لم يجن شيئا من جناها ما أساس هذا الاعتقاد ،ما سر هذااليقين ،لا أحد يعلم ،فلما جاءت أنباء ثورة سنة 1919 ،لاحت على شفتى هذا الغريب الغائب عن وطنه وأمته وأهله وزوجته ،ابتسامة الأمل ،كأنه يقول : ألم أقل لكم ؟وأمسك بقلمه فى 14 من سبتمبر سنة 1919 ،ولعله لأخر مرة ،ووجه إلى أمته من بعيد ،فى ذكرى الاحتلال البريطانى ،أعظم تحية لثورتها . ثم أرسل إلى سعد زغلول برقية يقول فيها نحيى فيكم الوطن الغائب ،ونرجو لكم كمال التوفيق والنجاح . ولم يتلق فريد ردا على هذه البرقية ،ولعله لم يكن ينتظر ردا . فقد قامت الثورة ،وهذا هو الرد الذى انتظره . وفى 15 من نوفمبر سنة 1919 ،أسلم روحه إلى بارئها ،وكأنه بهذه الميتة المؤسية ،وحيدا طريدا شريدا يؤكد للناس ،أن خلاصة حياته هى شعاره . "نحن نعرف كيف نصبر على المكاره ،ولكنا لا نعرف النزول عن مطالبنا".
|