القاهرة 18 ديسمبر 2024 الساعة 05:05 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
استهلك منا أفلاطون ردحا من المقالات، أتعبنا هذا الرجل ولكن له العذر، سواء هو أو سقراط ومن سنكتب عنه بعد ذلك، أقصد أرسطو، فالثلاثة هم المؤسسون الأساسيون للفلسفة القديمة في الفكر الفسلفي، الأساس الأقوى لكل الفلسفات التي جاءت مرتكزة على فلسفتهم فيما بعد، وقد أوضحنا في مقالاتنا السابقة كيف أن هذا الفكر كان يعد امتدادا لفكر مصري خالص، ومعرفة وعلم وفنون نشأت على أرض مصر القديمة، ففي علوم أهل الاجتماع تعرف الحضارات بالاستقرار، وما أن تستقر جماعة من البشر في أرض حتى يبدأ الإبداع.
ودعونا نبدأ في الترحال بين ثنايا فكر فيلسوف عظيم، أطلق عليه لقب المعلم الأول وهو أرسطو، وعنه يقول برتدراند راسل في كتابة تاريخ الفلسفة الغربية كلمات تحتاج إلى شرح سنوافيكم به في خضم هذه المقالات، يقول راسل:
"وفي دراستنا لأرسطو بصفةٍ خاصة، لا بُدَّ لنا من دراسته على وجهين؛ فندرسه بالنسبة لأسلافه، وبالنسبة لمن جاؤوا بعده. أما بالنسبة للأسلاف، فلأرسطو عدد ضخم من الحسنات. وأما بالنسبة لمن جاؤوا بعده، فله عدد لا يقل عن ذلك ضخامةً من السيئات، ولو أن تبعة سيئاته تقع على عاتق من جاؤوا بعده أكثر مما تقع على عاتقه هو، فقد جاء في ختام الفترة المتميزة بالأصالة من تاريخ الفكر اليوناني، ثم مضى بعد موته ألفا عام قبل أن ينجب العالم فيلسوفًا يمكن أن يدنو منه في مكانته. وفي أواخر هذه الحقبة الطويلة، كان نفوذه قد بات في العلم وفي الفلسفة على السواء عقبةً كئودًا في سبيل التقدم؛ فمنذ بداية القرن السابع عشر، ترى كل خطوة تقريبًا من خطوات التقدم العقلي مضطرةً أن تبدأ بالهجوم على رأي من الآراء الأرسطية، ولا يزال هذا يصدق على المنطق حتى يومنا هذا، لكن فداحة المصاب لم تكن لتقل -إن لم تزد- إذا كان قد كُتب لأحدٍ من أسلافه (وربما استثنينا ديمقريطس) أن يظفر بمثل ما ظفر به أرسطو من قوة النفوذ؛ فلِكي ننصفه لا بُدَّ -أولًا- من نسيان شهرته المفرطة بعد موته، ثم لا بُدَّ من نسيانِ ما سُدِّد نحوه بعد موته من اتهاماتٍ مفرطة كذلك، جاءت نتيجةً لتلك الشهرة".
كما يقول راسل كان الرجل عظيما بالفعل، فيبدو أنه قد وضع رأيه في كل المسائل الفلسفية والعلمية، حتى إن نظرياته عرفت بالمذهب الأرسطي، أو الآراء الأرسطية، وهي التي كما ذكرنا منذ قليل كانت التكئات التي استند إليها وعليها كل الفلاسفة الذين جاؤوا بعده.
ولد أرسطو عام 384 ق. م تقريبا، في منطقة ستاجيرا، وكان أبوه قد ورث منصب طبيب الأسرة لملك مقدونيا، عندما بلغ الثامنة عشرةَ من تتلمذ علي يد أفلاطون، وانضم إلى الأكاديمية لما يقرب من عشرين عاما حتى وفاة أفلاطون، ثم ارتحل إلى عدد من البلاد بعد ذلك.
ويقال أنه قد تزوج من فتاة أما أنها كانت أخت الطاغية هرمياس أو بنت أخته أو معشوقته كما يقول دعاة السوء، ولكن برتراند راسل يرفض هذا القول برمته مؤكدا أن أرسطو كان خصيا.
وفي عام 343 ق .م أصبح أرسطو مربيا للإسكندر الذي كان عمره في هذا الوقت ثلاثة عشر عاما، وحينما بلغ الإسكندر السادسة عشر أعلن أبوه أن ابنه قد بلغ سن الرشد وعين وصيا على العرش، ولكن العلاقة بين أرسطو والإسكندر مبهمة وغامضة إلى حد كبير، على الرغم من العديد من الروايات التي تتحدث عن هذه العلاقة إلا أن برتراند راسل يؤكد أن جميعها مزور، وقد لا تكون جميعها وإنما بعض منها، حتى إن راسل يؤكد أن الرسائل المتبادلة بينهما كذلك مزورة ومنسوبة إليهما بهتا، والرأي عندي أن الكثير من الروايات قد تكون ملفقة، إلا أن الرواية الصحيحة هي أن الإسكندر قد تأثر بشكل كبير بأرسطو وهو ما سنفنده، حتى إنه تأثر بفكره الفلسفي ليحوله إلى فكر عسكري توسعي.
ويقول راسل مؤيدا لوجهة نظره في مدى تأثر الإسكندر بأرسطو:
"وأما عن تأثير أرسطو فيه، فنحن أحرار في تخمين الرأي الذي يبدو لنا أجدر بالتأييد من سواه، وإني من جهتي أعتقد أن لا أثر لأرسطو في تلميذه على الإطلاق، فقد كان الإسكندر غلامًا طموحًا جيَّاش العواطف، وكانت العلاقة بينه وبين أبيه سيئة، والأرجح أنه لم يكن يُقبل على التعليم راضيًا، فمن بين تعاليم أرسطو أن الدولة لا يجوز لها قط أن يزيد عدد أبنائها على مائة ألف مواطن، كما كان من تعاليمه أيضًا مذهب الوسط الذي هو خير الأمور، فلا أستطيع أن أتخيل تلميذه إلا وهو ينظر إلى أرسطو نظرته إلى رجلٍ متعالم كهلٍ قليل الهمة، فرضه أبوه عليه ليحول بينه وبين فعل السوء. نعم قد كان الإسكندر يُكن احترامًا للحضارة الأثينية صادرًا في ذلك عن عنجهية، لكن هذا الاحترام كان شائعًا في أفراد أسرته المالكة جميعًا، الذين أرادوا أن يقيموا البرهان على أنهم ليسوا قومًا من الهمج، وهو شعور بما أحسه الأرستقراطيون الروس إزاء باريس في القرن التاسع عشر، ولم يكن هذا -إذَن- أثرًا من آثار أرسطو في الإسكندر، ولست أرى شيئًا آخر في شخصية الإسكندر مما يجوز أن يكون قد استمد من هذا المصدر.
بل إنه لما يبعث على دهشةٍ أعظم، أن الإسكندر لم يؤثر في أرسطو إلا بهذا المقدار الضئيل، حتى لقد راح أرسطو في تأملاته السياسية متناسيًا حقيقة واقعة، وهي أن عصر الدول التي يكون قوام الدول منها مدينة واحدة، قد زال من الوجود ليحل محله عصر الإمبراطوريات، وإني لأظن أن أرسطو قد لبث إلى آخر حياته يرى في الإسكندر «ولدًا فارغ الوقت عنيدًا، لا يستطيع أبدًا أن يفهم من الفلسفة شيئًا». فعلى وجه الجملة، يظهر أن اتصال هذين الرجلين العظيمين أحدهما بالآخر لم تكن له أية ثمرة، فقد كانا يعيشان في عالمين مختلفين".
|