القاهرة 17 ديسمبر 2024 الساعة 09:28 م
بقلم: د. حسان صبحي حسان
يمثل الفن تلك القدرة الخارقة على تسطير الخيال والصدق والمغامرة الجسورة، واللغة الخاصة التي يفصح بها الفنان عن نفسه ويبوح بها للناس على نحو لم يألفوه، عبر تنظيم الداخل الجواني للمبدع وتقويم خواطره وعواطفه، رجوعا للعالم الخارجي بما فيه من قواعد وضرورات وأنظمة فنية وفلسفية، فالفن هو الأداة السحرية الغامضة للسيطرة على دنيا الواقع، وتغيير العالم، وصياغة مثيرات جمالية نتاج (البعد الثقافي والمعرفي للفنان- وأيضا وفق املاءات فطرة الاستجابة للمؤثرات من المحيطات) في ضوء احتكاك مستمر بالواقع والعصر، وما فيه من ايدولوجي وتحولات في المفاهيم.
فالفن في قفزاته على اعتيادية القوالب المنمطة والتنكر للثبات، اشتق خطاب بصري فاعل قوامه تواصلية مع المعطى التكنولوجي، وتأسيس تفاعلية وعلاقات جديدة بين المتلقي والعمل، وعدم اختصار فيزياء العمل على النص فقط، بل تصدير المعاني والدلالات، ورفع مؤشر المستحدث وما ينطوي من معنى ضمني ومجرد، ونحت مدارات راديكالية ينقب فيها الفنان عن تحقيق (قيمة التكامل وقيمة الشمول في العمل بمختلف المجالات الفنية) لتهيئة الجمهور لسيكولوجية لا تخلو من الإثارة، وتلمس الفرادة في التعبير عن المعاني.
-
التكوينات الخاصة وحداثية المنجز البصري:
والفنان " خالد سرور" من مواليد مصر، ويعمل أستاذ بقسم الفنون البصرية والرقمية، ورئيس قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة- مصر- السابق. وعضو نقابة الفنانين التشكيليين والعديد من الجماعات والجمعيات الفنية في مصر، ويشارك بالحركة التشكيلية منذ 1985 وحتى الآن وله العديد من المعارض الخاصة والجماعية بمصر والخارج، قوميسير مساعد جناح مصر ببينالي فينيسيا 2007، قوميسير مصر فيينا 2007، وحصل على العديد من الجوائز والمنح الفنية أهمها منحة فنية للولايات المتحدة الأمريكية، وله مقتنيات بالعديد من الهيئات والمؤسسات والمتاحف وعدد من الدول العربية والأجنبية.
ويمثل "خالد سرور" أحد الراديكاليين النابهين الذين يتسمون بتحرر الرؤية ونباهة الطرح، وهو أيضا جزء فاعل من المشهد الفني المصري، بنبوغه وخصوصيته، وتفرده البحثي المعرفي كأستاذ أكاديمي وباحث فني نحت لنفسه أبجدية خاصة وتشعب أفكاره وأطروحاته الممتدة للعالمية، وروح البراءة في رسومه ذات التعمق الجذري والثقافي، والتي تنحو عن قضايا الزخرف والمعالجات الجمالية التقليدية، لصالح تأسيس تحولات جذرية في الهيئة البنائية والفلسفية، من خلال إبحاره بهمة وفهم ووعي وتعمق مكين في جوانيات وصميم البيئة المصرية وعناصرها الدالة.
عبر هجر طرق تسجيل الرؤية والتدوين الواقعي، لصالح ترجمة الأفكار لشخوص مفعمة تسكن بيئات غنائية، دفع فيها الفنان بصور ذهنية غير معتادة للمتلقي، والولوج لنستولوجي والحنين للماضي بأحداثه وذكرياته، والالتقاء بالذكريات، وتشخيص أجواء مناخية قفزت عبر الرصيد الذهني والحنينية الجارفة للعالم البريء الملهم، كينبوع ملهم تتيح للمشاهد أن يشارك تجربة الفنان الخصوصية بصورة تأمليه وتحليليه، عبر بهجة لونية وسيكولوجي دلالي للون، لتتحول فيه الألوان لأنغام تحفز الشعور الخالص في النفس،وتزرع المتعة الجمالية تجاه البلاغة اللونية، والتراكيب المشبعة وتأثيراتها الحسية.
-
روح البراءة والهوية في عوالم "خالد سرور الخاصة":
الفن بالأساس هو تعبير عن الذات، وتنفيس عن المشاعر والأحاسيس، من خلال "هوية " كإثبات ذات وکينونة، والحاجز الذي يفصل بين الفنان وبين التبعية التقليدية"كالهوية الفکرية" كجزء من بناء الذات الإنسانية، والتي تمثل مخزون الفنان من (تراث وثقافة وطقوس وعادات وتقاليد وحضارة وتاريخ)، ومجمل الخبرات الوجدانية المترسبة في الذهنية، والتداعيات المستمدة من البيئة المحيطة، لتأطير الطابع الشعبي والروح الشائعة في أبجديات الشخصية المصرية، منتهجا التعبير الدينامي عما يجري حوله، وبخاصة الأحوال اليومية والعادات والشعبيات، لينتمي الفنان لهوية متحرره تمزج بين(رصانة وسحر الشرق وطبيعة مصر- وحداثة المعالجات التقنية-والدلالات التعبيرية في التقاليد المصرية الشعبية) وهو ما حشد لأشروحاته البصرية، الرسوخ في وجدانية المتلقي.
ففي أصالة تعرض حكاياته الأسطورية النابضة، سطر"خالد سرور" عناصره بمنتهى الصدق بعيد عن كل تكلف، يعززه همة فكرية على البوح البصري بموضوعات أثيريه تنتفض من الارتباط الواقعي، لصالح تلخيصات غنائية تحتفي بمدارات البراءة والصفاء والنقاء ورهافة الحس، لترتكل بذلك أطروحاته الفنية لمصدرين أساسيين هما (الحياة المعيشية اليومية للمصريين- والتراث الشعبي المصري سواء المصري القديم أو النوبي) لتمثل حياة المصريين البسطاء شغله الشاغل، والارتباطية اللصيقة بتلك الحياة وبالشارع المصري (أماكنه – شوارعه – بيوته – أشخاصه – أحواله – أحلامه – همومه – قضاياه – مواقفه الاجتماعية - العلاقات التفاعلية بين عامة الناس).
-
أسطورية التمثيلات وعاطفية التأثير:
استردف الفنان القيم الإيقاعية للخطوط المنسابة، ووظائفها الدينامية، وما تصدره من الإحساس بالهدوء والرقة والاسترخاء والليونة والرشاقة وسلاسة التموج، مع توظيف الخطوط ذات الزوايا الحاده والتي تعطي الاحساس بالقوة والصلابة، في مزاوجة بين (ليونة المقوس، وصلابة الخط المستقيم) (بين المنحنيات المنسابة، والزوايا الحادة القوية) في كل متسق الأجزاء، ينتفض عن كل ماهو ثانوي لصالح الحيوي الحقيقي، ليسجل فقط ما يريد الإفصاح عنه بدقة ونقائية.
كما يأتي الخط الأسود المتواتر الذي يحدد كل الأشكال والذي يعد أحد أساليبه الخاصة الذي تتسم به أعماله الفنية، يأتي للتأكيد على المفهوم الفني الذي يود طرحه في العمل عبر التضاد بين درجة الأسود وباقي الألوان، أيضاً يأتي تواتره لوضع المشاهد أمام حالة من التضاد الذهني ما بين تسطيح الألوان وتجريدها وبين تواتر تلك الأشكال وحركتها من خلال هذا الخط الرابط بين عناصر وأشكال العمل الفني، مؤكداً المفهوم الفني المراد من هذا العمل.
لقد هدف "خالد سرور" لتصدير طاقة حنينية جارفه إلى هذا العالم البرئ الملهم، وذلك في نظام عاطفي، يحتفي بتسجيل لحظات "الاختلاء بالذات والسكينة". ففي معرضه " نفس عميق " في "جاليري ياسين" بالزمالك، يعرض الفنان (15) عمل تصويري عبر عمق فلسفي مؤسس على فكرة (الاستراحة والجلوس) التي يحتاجها الشخص لتعويض الارهاق والتعب والمشاكل والصخب الحياتي ووقفة مع النفس واختلاء بالذات، في دنيا البراءة مفتوحة الأجواء، وتصوير تلك العلاقات العاطفية مع شخوص رقيقه حانية في لحظات استراحتها وهدوءها وجلوسها، في منأى عن صخب وزيف العوالم المزدحمة، ضمن منظومات تعبيريه صيرورة، حقق فيها الفنان التجانس اللوني المعبر، للافصاح عن تكوينات راديكالية يكتنفها الإختزال.
-
مفهوم البعد الإنساني في المدرك البصري:
شغل العنصر البشرى بإحساساته العاطفية وإيماءاته وإنفعالاته، حيزا داخل المخيلة الإبداعية للفنان، لتصبح الصورة الإنسانية مشحونة بالطاقة التعبيرية والأبعاد الرمزية، والجاذبية التي تعمق الشعور واستثارة المخيلة لتلمس انفعالات وإحساس وفكر الفنان والتفاعل الدؤوب معها. فانبثقت الصورة الإنسانية في أعماله مصطبغة مشحونة بطاقات تشخص قوة التعبير الإنساني، والحالات الإنسانية مثل (اللعب والمرح، والسعادة والحزن، والاقبال والانطواء، والحركة والاسترخاء) والتي تعمق لدى المشاهد الشعور بالتعاطف والتفاعل.
وتدشين الربط والانسجام فيما بين الكتل اللونية المغلفة بالخواطر والأحاسيس، والتي يمثل اللون فيها البعد الدرامي البصري الذي يصدر أحاسيس وانطباعات تتوازي مع حيوية الحركة، والتركيز على لغة التباينات، والمبالغة فى "دراما" الرسم والخط، وتصوير الإنفعالات المختلفة على وجوه الشخصيات، والاستعانة بضربات الفرشاة المتوهجة والعميقة ذات النغمات الطنانة، وتكثف ببهاء الجوانب العاطفية بمسحة من الفخامة والفطنة والدعابة، وإنشاء خلفيات فراغية لونية تتمتع بالتسطيح اللوني، الذي يتفاعل مع الحركة الدؤوبة الرشيقة التي تنبض بها أشكاله الفنية، وإثرائها بمعالجات تقنيه تتوازى مع سياق العمل أو تتناقض معه لتحقيق أقصى كثافه وثقل تأثيري، لتنبري تلك الفراغات كتمثيل لذلك (النفس العميق) الذي يوفر الاستراحة لشخوص العمل ويخصب المناخات الملائمة للارتياح.
|