القاهرة 17 ديسمبر 2024 الساعة 10:49 ص
محمود الدخيل ـ الأردن
يأتي كتاب "تفكيك الصورة النمطية عن الدولة العثمانية.. مؤسسة "الدفشرمة" نموذجاً" للباحث محمد م. الأرناؤوط،طرحا شائكا في هذا الوقت المرتبك بالصراعات العربية والتي لا تبعد يد تركيا عنها كثيرا، فتركيا تقف أو تساند أو تدير الكثير من الملفات الساخنة في منطقتنا العربية، وبخاصة أن النظام الحاكم في تركيا يرغب في إعادة مجد الخلافة العثمانية. شارك في هذا الكتاب كل من: أشرف كوفاتشوفيتيش- ألكسندر ماتكوفسكي- علاء الدين هوسيتش- محمد م. الأرناؤوط.
صدر الكتاب مؤخرا عن "الآن ناشرون وموزعون" في الأردن، ويضم مقدمة وأربعة فصول يعد كل فصل منها دراسة لأحد المؤلفين.
يقول محمد م. الأرناؤوط في مقدمة الكتاب: "تُعتبر "الدفشرمة" من القضايا الرئيسة التي تشغل المهتمين بالتاريخ العثماني، إذ إنها من المؤسسات الأساسية للدولة العثمانية، ولذلك يصبح من الصعب تفهُّم الدولة العثمانية على حقيقتها مع التشوُّش الحالي الذي يحيط بهذه المؤسسة (الدفشرمة)".
ويتابع الأرناؤوط في المقدمة أيضاً: "وكانت الفترة الأولى من التاريخ العثماني، فترة السلاطين الأقوياء، قد شَهِدَتْ تحوُّلاً تدريجيّاً باتجاه التخلُّص من الأستقراطية أو النَّبالة التُّركية، التي كانت قد ساهمت -بدورها- في تحوُّل "إمارة عثمان" الصغيرة إلى "دولة عثمانية" واسعة، وذلك لكي لا تقع الدولة الجديدة والطموحة فيما وقعت فيه الدول المجاورة من صراعٍ وانقسامٍ بين السُّلالة الحاكمة وبين الأمراء والنبلاء الطموحين. وهكذا فقد لجأ السلاطين العثمانيون منذ عهد مراد الأول، وحتى محمد الفاتح، إلى التخلُّص التدريجيِّ من الأرستقراطية أو النَّبالة التُّركية، وتشكيل نُخبةٍ أو هيئةٍ حاكمة جديدة تتولى شؤون البلاط، والإدارة، والجيش للدولة العالمية الجديدة التي كانت قد امتدَّت على ثلاث قارات. وهكذا باستثناء منصب السلطان نفسه، الذي بَقِيَ حِكراً على آل عثمان، فإن كل الوظائف والمناصب الإدارية- العسكرية من أسفل الهرم (صغار المسؤولين وأفراد الإنكشارية) إلى رأس الهرم (الصدر الأعظم) أصبحت في يد هذه النخبة أو الهيئة الحاكمة الجديدة التي تكوَّنت بالتدريج خلال مئة سنة تقريباً".
ويضيف الأرناؤوط حول تلك التجربة: "ولا شك أن هذه التجربة العثمانية، كونها تجربةً رائدة وجريئة بهذا الشكل، كان لها جوانبها الإيجابية والسلبية، التي ظهرت بالتدريج بعد تطبيقها خلال عدة قرون. وهكذا فقد بَدَتِ الدولة العثمانية للبعض "دولة فلاحين"، أو دولةً تقودها هيئةٌ من "أبناء الفلاحين"، مما أثار ضدها الأرستقراطية التركية والعربية في آنٍ واحد".
وفي الفصل الأول المعنون "الصورة المُتخيَّلة للدفشرمة" يقول الأرناؤوط حول تاريخ الدفشرمة في المنطقة العربية: «أما فيما يتعلق بالمنطقة العربية، فيُلاحَظ وجود إشارات عامة حول "الدفشرمة" تعود أيضاً إلى نحو مئة سنة. وهكذا يذكر محمد فريد بك المحامي في كتابه "تاريخ الدولة العلية العثمانية" الذي صدر في طبعته الأولى سنة 1898م، أي في الوقت نفسه الذي صدرت فيه دراسة "توميتش"، أن السلطان العثماني "كان يأخذ الشبَّان من أسرى الحرب النصارى، ويفصلهم عن كل ما يُذكِّرهم بأصلهم ونسبهم، ويُربِّيهم تربية إسلامية عثمانية، بحيث لا يعرفون أباً إلا السلطان، ولا حرفة غير الجهاد في سبيل الله". وفي الوقت الذي كان فيه المؤرخ التركي أحمد رفيق ينشر دراسته الرائدة حول "الدفشرمة" (1926م)، نجد أن المؤرخ محمد كرد علي يشير في كتابه "خطط الشام" إلى "الدفشرمة" باعتبارها "على غير مثال في التاريخ"، ويُوضِّح أن أفرادها كانوا يُجمعون "من أولاد المسيحيين من العثمانيين كالبوشناق والروم والصرب والبلغار والألبان. بحسب اللزوم، وبموجب قانون التجنيد المعروف عندهم بقانون الـ"دوشرمة"، وذلك من أهل "الروم إيلي" ومن سكان الأناضول على قلة، ويُعفى من ذلك الأرمن وسكان جزيرتي ساقز ورودوس، ويأخذونهم من أهلهم في سن العاشرة إلى الخامسة عشرة، ويربونهم تربية إسلامية، ثم يجعلونهم في الثكنات في الآستانة"».
ويقول "ألكسندر ماتكوفسكي" في الفصل المعنون "مساهمة في قضية الدفشرمة": "بدأت الدفشرمة في عهد السلطان مراد الأول (761-791هـ/ 1360-1389م)، حين برزت في الإمبراطورية العثمانية الآخذة في التوسُّع الحاجةُ إلى مزيد من القوات العسكرية، ولذلك ظهرت حينئذٍ الفكرة الداعية إلى الاستفادة من الأولاد المسيحيين الذين يقعون في الأسر خلال الحرب، الذين يمكن لهم بعد اعتناقهم الإسلامَ وتربيتهم من جديد المشاركة في المعارك. وهكذا لأجل هذا الهدف تشكَّلَ في عهد مراد الأول ما يسمى "أوجاق العجم" (أعجميِّي أوجاق)، الذي كان تابعاً "لأوجاق الإنكشارية"، إذ كان الأولاد يقضون وقتهم في تعلُّم القراءة والكتابة والفقه الإسلامي والتدريب العسكري.
ويتضمن الكتاب عدداً من الوثائق المهمة بشأن تاريخ الدفشرمة وبعض الأحكام والمراسلات الخاصة بالتحاق المواطنين بالدفشرمة.
ويقول أشرف كوفاتشيفتش عن إحدى تلك الوثائق: "إن هذه الوثيقة التي تُمثِّل دليلاً حول تطوُّر الأحكام المتعلقة بـ"الدفشرمة"، على الأقل فيما يتعلق ببلادنا، تؤكد في الوقت نفسه ما ذهب إليه البرفسور "ب، جورجيف" B.Djurdjev من أن "بعض المصادر من القرن السادس عشر تشير إلى أنه في بعض المناطق كان يعتبر من التكريم اختيار الشاب خلال جمع ضريبة الدم". وما أورده "ست. ستانويفتش" St. Stojanovi? من أنَّ "الراتب الجيد كان يجذب الشبان المسيحيين لكي ينضموا برغبتهم إلى الإنكشارية". ومن هذا أيضاً، ما يسوقه "أ. ماتكوفسكي" من الباحث "يرتشك" Jirecek، الذي تابَعَ ما كتبه الرحالة عن بلغاريا، من أن "بعض الآباء لم يُبدوا أية مقاومة لتجنيد أولادهم في "الدفشرمة"، بل كانوا هم يقدمون أولادهم بكل رغبتهم".
ويقول علاء الدين هوسيتش في الفصل المعنون «البوسنة في السياق الإقليمي لتجنيد "الدفشرمة"»: "مع الوصول إلى إستانبول تبدأ حياة جديد للمجندين في ظروفٍ جديدة، ومع آفاقٍ جديدة لهم. فبعد السفر الطويل من مواطنهم، يُعطى المجندون "3 أيام استراحة" كانت تجري فيها مطابقة المعطيات المتعلقة بالشبان بما هو موجود في "الدفتر". وإذا جرى التحقُّق من وجود مخالفة قانونية، أي ممَّن دخل بين المجندين دون أن يجري اختيارهم، فيُفصل هؤلاء عن المجندين، ويُرسلون للعمل في المخازن أو مستودعات الأسلحة. وخلال هذه الأيام الثلاثة للاستراحة يتعلَّم غير المسلمين الشهادة وينطقون بها، وبذلك يكونون قد اعتنقوا الإسلام. خلال ذلك الوقت يُعايَنُ المجندون بوجود طبيب تحت إشراف قائد الإنكشارية، وذلك للتحقُّق من صحة وصلاحية المرشحين لفرزهم لاحقاً حسب الخيارات. وفي غضون ذلك يخضع غير المسلمين لإجراء الطهور من قبل جرَّاح متخصِّص في ذلك، وكان كل ذلك يجري تحت المراقبة والمتابعة المباشرة لآغا البلاط".
|