القاهرة 17 ديسمبر 2024 الساعة 10:31 ص
بقلم: أسامة الزغبي
تعتبر الحرب الأهلية الإسبانية بمثابة الحدث الأكثر دراماتيكية في التاريخ الإسباني المعاصر، ولا يزال أثرها ماثلا في العقل الجمعي الإسباني حتى اليوم، لدرجة صدور أكثر من 70 رواية سنويا موضوعها الأساسي هي هذه الحرب. لا غنى عن فهم الأسباب التي أدت لهذه الحرب المريرة، وكذلك الديكتاتورية التي نجمت عنها من أجل فهم التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للشعب الإسباني في عصرنا الحالي. وبسبب ندرة الدراسات – وربما انعدامها - عن هذه الحرب في مكتبتنا، أحاول من خلال هذه الدراسة البسيطة تقديم ما يساعد الدارسين أو المهتمين بالدراسات الإسبانية على فهمها.
سقوط الملكية:
في الرابع عشر من أبريل عام 1931 تنازل ألفونسوالثالث عشر، ملك إسبانيا عن مهام منصبه دون التنازل عن لقبه، مبررا ذلك بعدم قدرته على التنازل عن حق تاريخي.
غادر الملك من الباب الخلفي للقصر الملكي يصطحبه الأدميرال خوسيهريبيرا إلى السيارة التي ستقلهم إلى مدينة قرطاجنة، تتبعهم سيارة بها رقيب وأربعة أفراد من الحرس المدني. استقلوا السفينة (أميرة أستورياس) إلى مرسيليا، ثم منها إلى روما، منفاه النهائي، ولن يعود أبداً إلى مدريد.
لقد كان رحيل الملك مخزياً وسرياً ومضطراً بسبب الانشقاقات التي عانى منها نظامه وبسبب ضغط الآلاف من المدرديين الذين كانوا يهتفون في الشوارع للنظام الجديد، نظام الجمهورية. لم يجرؤ أحد على ضمان سلامة الملك ولا حتى الجنرال سانخورخو نفسه، مدير الحرس المدني.
أراد الملك أن يترك بضع جمل للتاريخ قبل أن يغادر تحت ضغط وزرائه قائلا: "لن تراق قطرة دم واحدة من أجلي". رغم طلبه في الصباح من وكيل وزارة الداخلية أن يُخلي ميدان باب الشمس بالقوة من الجموع التي احتلته. ولحسن الحظ، قام الوكيل بإثناء الملك عن نواياه القمعية. عندما تفرقت الحشود في الساعات الأولى من الصباح الباكر في الساحة أمام القصر،لم يكن قد سقطت أية ضحية. لقد حدثت ثورة سياسية في إسبانيا دون سقوط قتيل واحد. لقد ذابت الملكية مثل مكعب سكر.
وبعد ظهر هذا اليوم بالذات صرخ نيستو ألكالا - ثامورا، برفقة مانويل آثانيا وبتشجيع من رجال مثل غريغوريو مارانيون وخوسيه أورتيغا إي غاسيت وبيريز دي أيالا، من الشرفة المركزية لمصلحة البريد، في ميدان الشمس: تحيا الجمهورية! لقد انقضت الساعات ولم يتم سجن أعضاء الحكومة المؤقتة الذين نصّبوا أنفسهم أعضاء في الحكومة المؤقتة ولم يُطلقوا النار عليهم، ما يعني قيام الجمهورية.
أسباب تنحي ألفونسو الثالث عشر عن الحكم؟
للبحث عن بداية، فإن أكثرها يقيناً، والتي يتفق عليها جميع المؤرخين تقريباً، هي 15 سبتمبر 1923، عندما استقبل الملك الشاب جنرال انقلابي وهو ميغيل بريمو دي ريبيرا، ووصفه بالرجل المستنير، وأضفى الشرعية على عمله الهمجي بالتعبير عن رغبته في أن يعينه الله على النجاح في مهمة الحكم التي كانت قائمة على عنف السلاح. لقد تشوّهت الملكية الدستورية بتحالفها وربط مصيرها مع الشخص الذي حطم بوحشية الإطار القانوني الذي كان يدعمها.
وكان الجنرال بريمو دي ريبيرا، وهو واحد من رجال السيف غير المتعلمين وغير المثقفين في تاريخ الجيش الإسباني، قد عهد إلى نفسه بدور رجل العناية الإلهية الذي كان عليه أن يستأصل شرور البلاد. وكانت الشرور كثيرة بالفعل. فقد كانت إسبانيا بلدًا مبتلى بأزمة هائلة أثرت على كل جانب من جوانب الحياة المدنية تقريبًا.
كان الوضع الاجتماعي لا يحتمل. الشوارع والحقول ملطخة بالدماء. ينتفض الفلاحون في ثورات يائسة لإنقاذ أسرهم من الجوع والبؤس. لم يتأثر الإقطاعيون بهذا المشهد المروع من الجوع ونزع الملكية، والذي غالبًا ما كان يتدهور إلى عنف شرس يتمحور في الغالب حول النقابات، وخاصةً المجلس الوطني للنقابات المهيمن في الريف الأندلسي.
لم يكن الوضع في المدن أفضل حالاً. ففي برشلونة، كانت الحرب الشاملة الحقيقية لا تزال مستعرة بين المسلحين الذين استأجرهم أصحاب الأعمال والفوضويين. وكان الحاكم العسكري، الجنرال سيبيريانو مارتينيزأنيدو، قد انحاز إلى جانب الزعماء واخترع ما يسمى ”قانون الهروب“، الذي كان يعني قتل النشطاء المسجونين في ظهورهم. وقد نتج عن تلك الحرب أكثر من خمسمئة قتيل. وكافأ ”المنقذ“ بريموديريفيرا الجنرال مارتينيز أنيدو بمنصب وزير الداخلية.
دون الوصول إلى درجة العنف التي شهدته برشلونة، تكررت الإضرابات والمظاهرات في جميع أنحاء إسبانيا. كانت الأزمة الاقتصادية التي نتجت عن نهاية الحرب العالمية الأولى - التي أعلنت إسبانيا حيادها فيها - قد طالت، دون أن تلوح في الأفق نهاية لها.
سادت الفوضى أيضًا في السياسة. فالعسكريون الذين كانوا الأبطال الرئيسيين، وإن كانوا ”من الهامش“، قفزوا على الأحداث، وتجمعوا في لجان الدفاع العسكرية، عندما شعروا أنه تم تجاوز بعض الخطوط الحمراء. وأصبحت هذه اللجان، التي تم تقنينها في عام 1920، هي التي تحكم السياسة، وإن لم تتسلم مقاليد الدولة. وسقطت الحكومات الواحدة تلو الأخرى تحت ضغطهم، وكانت كاتالونيا بالنسبة لهم مصدرًا لا يطاق للتخريب. وجاء سخط الكتالونيين من بعيد، من الأسبوعالتراجيدي ، من حرب الريف ، من عدم الفهم الدائم للقومية الإسبانية المتطرفة فيما يتعلق بمؤسساتهم الخاصة. فمنذ عام 1905، عندما اعتدى مئتا ضابط على مجلة "كو-كوت" الساخرة، كانت الاشتباكات بالأيدي بين الجنود والقوميين الكتالونيين تحدث في شارع رامبلاس. كان النظام الدستوري متسامحًا للغاية، في نظر هؤلاء العسكريين، تجاه القوميين الكتالونيين، لذا قام بريمو دي ريفيرا بحل المؤسسات الكتالونية وحظر استخدام اللغة الكتالونية في الدوائر الرسمية.
|