القاهرة 12 ديسمبر 2024 الساعة 02:14 م
ترجمة: سماح ممدوح حسن
يُعد "وول سوينكا" أول أفريقى أسود يفوز بجائزة نوبل فى الأدب عام 1986، ويعتبر حاليًا واحدًا من أهم المؤلفين فى القارة. إلا أنه ومنذ أكثر من 20 عاما، أُلقي بالسجن دون محاكمة حتى، فقط لأنه تحدث علنًا عن الحرب الأهلية النيجيرية.
وخلال فترة سجنه الانفرادي، كتب سوينكا ملاحظات وقصائد، باستخدام عظام اللحوم والحبر المصنوع يدويا، ومناديل الحمام. نتج عن تلك الملاحظات والأفكار كتاب مذكرات "مات الرجل" المنشورة عام 1972، وحاليا يتم تحويلها إلى فيلم بالعنوان نفسه، تُروى فيه حياة الكاتب المسرحي والروائى فى ذروة الحرب الأهلية.
ومن منزلة فى"أبيوكوتا"جنوب غرب نيجريا، أجرى"سوينكا" البالغ 90 عاما، مقابلة مع"لارى مادوو" الصحفى بشبكة"CNN" وتحدثا عن تأثير فترة السجن عليه وطرق مقاومته التى طوّرها بينما ينظر إلى الوراء إلى حياته غير العادية والتطلع إلى الأحلام التى لم يحققها بعد.
_كيف كان أحساس أن تدخل السجن لمجرد أنك طالبت بما شعرت أنه الصوب؟
كان السجن فترة اختبار بالنسبة إلىّ. قضيت اثنين وعشرين شهرا فى عزلة تامة، محروما من الكتب والورق، وتفتش زنزانتى باستمرار، ولا شيء على الإطلاق يحافظ على عقلى. أظن أن أحد أكثر الصفات البشرية دهاءً هى التى واجهتها على الإطلاق وأنا سجين، فعلى السجين أن يبقى حيًا. فالسجن اختبار للبقاء لا علاقة له بتطوير الذات.
فى الحبس الانفرادي، ما هى أكثر المبادرات الاقتصادية التى تستطيع عملها؟
المؤسسة العقلية، الحسابات، الرياضيات. فلقد صنعت حبرى من التراب، وصنعت قلمى من العظام الموجودة فى لحم طعامى، وخلقت عالما عقليا صغيرا خاصا بى ومكتفيًا ذاتيًا. لكنها أيضًا كانت فترة خطيرة للعقل. فأنا أتذكر عندما كانت تنتابني الهلوسة، كنت أقفز وأحاول تدمير صور الهلوسة التى كانت تظهر لي. لكن فى النهاية، أتقنت التكيف، حتى بدأت أتذكر الصيغ الهندسية وعلم المثلثات الذى كنت أكرهه، وبدأت أتذكرها وأجرى بعض الحسابات على الأرض. صدق أو لا تصدق، لقد أعدت اكتشاف نظرية "التباديل والتوافيق". وأصبحت الأشياء التى كنت أكرهها فى المدرسة هى مصدر دعمي.
_كتبت عن سنوات السجن فى مذكراتك التى تحولت الآن إلى فيلم بعنوان "مات الرجل".. هل شاهدت الفيلم؟
لا. لكن دعني أوضح، إن تحويل أي شيء فى حياتي إلى مادة يمكن للآخرين مشاهدتها، يؤلمنى. لقد ساعدتهم فى تحديد موقع المنزل الذى اختبأت وعملت فيه خلال الحرب الأهلية. كانوا يبحثون عن شيء قريب من الشيء الذى كنا نستخدمه خلال تلك الفترة.
لكن المسألة لا تتعلق بى وحدى، بل بفترة معينة أيضا. ربما أشاهده ذات يوم، لكن ليس حاليا. فحتى هذه المقابلة التى نجريها، لن أشاهدها. يستغرق الأمر دائمًا بعض الوقت حتى أتمكن من مشاهدة نفسي.
_أنت لا تثير الضجيج فى عيد ميلادك، ولكنك بلغت 90 عاما للتو، وهذا أمر مهم.
نعم. الشيء المزعج هو أننى لا أشعر بأنى فى التسعين من عمري. لكنني سأعترف بأننى أقيم بعضا من طقوس احتفالات عيد الميلاد. فالمسألة ليست كراهية للاحتفال، لكن فقط أنا أحب الاحتفال بعيد الميلاد بمفردي. وما أفعله عادة فى عيد ميلادى هو الاختفاء فى الغابة. هذه طريقتي المعتادة لقضاء أعياد الميلاد.
_هل تذكر متى بدأتَ نشاطك السياسي؟
كنت أتنصت على محادثات والديّ جيدا. خاصة محادثات أبي الذى كان مدير مدرسة وكاهن الكنيسة الأنجليكانية. أتذكر كيف كنت أجلس خلف كرسي كبير للاستماع لتلك المحادثات. أمي أيضا كانت تأتي وتخبرني بما حدث. وكانت دائرة أبي كلها منخرطة فى العمل السياسي، ولهذا ربما أستطيع القول بأن وقتها كان بداية مشاركاتى السياسية.
عندما بدأت النساء بأعمال شغب فى هذه المدينة "أبيوكوتا" حيث نحن الآن، كانت أمي أيضا منخرطة فى هذا العمل، فقد كانت ناشطة فى مجال حقوق المرأة. مع السيدة رانسوم كوتي، والدة فيلا كوتي مخترع موسيقى الأفروبيت الشهيرة. لذلك في طفولتي، عندما كانت تندلع أعمال الشغب، أُصبح ساعيًا بين معسكرات النساء المختلفة لتوصيل الرسائل.
_يبدو أن رؤيتك لأمك منخرطة بالنشاط السياسي قد زرعت بذرة عمل حياتك.
نعم صحيح. خاصة عندما تكون فى الواقع وسط هذه البيئة، ذلك النضال ضد الوضع غير المقبول الذى كانت تواجهه هؤلاء النساء، وكيف كانت الشرطة تستولى على بضائعهن فى الأسواق، وإن لم يدفعن الضرائب، فإن بعضهن يضربن بعنف.. وهكذا.
فأنا كنت جزءًا لا يتجزأ من هذا ورأيت المزيد من سن التشريعات القمعية، فكان من الطبيعي أن أقف بصف النساء، وبالتالي هو ما انعكس فى كتاباتى، من دون شك.
_هناك أسطورة تقول أنك تسللت إلى محطة إذاعية واستبدلت خطابًا سياسًا بآخر أكثر انتقادا، هل هذا حقيقي؟
أولا يجب أن أذكرك بأنني حُوكمت وبُرّئت. ونعم هذا حقيقى. فحينها لم يكن هناك جدوى من الإنكار، وشعرت بأنى مضطر لوقف المزيد من بث النتائج الزائفة. فقد شهدت بنفسى تدمير مراكز الاقتراع، وحتى تمزيق النتائج. فى ذاك الوقت كنت بالفعل منخرطا فى السياسة إلى حد كبير، لكن عندما رأيت هذا النظام القمعي على وشك إعادة تنصيب نفسه، ويجب على الناس أن يتذكروا، أنه كان النظام الأكثر سخرية من الشعب، فهو الذى ذهب إلى حد الإعلان فى الراديو قائلاً: "نحن غير مهتمين إن صوّتم لصالحنا!" وهذا ما أثار حمّيتى النضالية بشدة حينها. كان ذلك جزءًا من صراع مستمر على العديد من المستويات. فأنا نعم أخطأت، لكن لم يكن هناك بديل حينها.
_بعد حصولك على جائزة نوبل للأدب 1986، استغرق الأمر طويلا ليحصل أفريقى أسود آخر على هذا الشرف، صف شعورك حينئذ؟
معزول، شعرت بأني معزول. وعندما فاز بها الأفريقى التالى شعرت بارتياح كبير. فقد كان المطلوب منى كثيرا بعد الجائزة، كما لو أن الدائرة توسعت بين عشية وضحاها، وكل هذا ببساطة لأنك جئت من القارة الأفريقية. وكذلك بالتأكيد الشعور بالتقدير وهو أمر جيد جدا.
من ناحية أخرى، بالطبع، الشعور بالاعتراف، وهو أمر جيد جدا. أيضا فتح أبواب معينة، ولكن فيما بعد لم يعد هناك الكثير من الأبواب التى أتطلع للدخول عبرها، فقد استمتعت بمهنتى وانتهى الأمر.
لكن في الوقت نفسه، وبخاصة في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، فقد كشفت الجائزة الكثير أيضا. فدائمًا ما أذكّر الناس بأن أحد أكثر الدكتاتوريين وحشية لدينا هنا، هو "ساني أباتشا" والذى كان سيموت سعيدا لو استطاع شنق أحد الحائزين جائزة نوبل. لكن لتحقيق سعادته كان عليه الاكتفاء بشنق الناشط والكاتب ورفاقه الثمانية. أنا أشير إلى "كين سارو ويوا"
لقد عرضنى ذلك لمخاطر جمة، خاصة بعدما رفضت التراجع عن معتقداتى وأنشطتي لمجرد أنني حصلت على جائزة نوبل. لماذا يجب أن أتوقف عن الأشياء التى كانت تشغلني قبل جائزة نوبل؟
لكن كان من الرائع توافد الفائزين الأفارقة فى قائمة الفائزين بجائزة نوبل، واحد تلو الآخر. وحاليا أستمتع لبعض الوقت بأنى فزت بجائزة نوبل، بدلا من شعورى السابق أحيانًا بأنى تحفة فنية.
_لقد أخبرت بعض طلاب برنامج التبادل الذى يحمل اسمك أنك لا تزال تأمل فى الذهاب إلى الفضاء. ما حكاية فتنتك بالفضاء؟
بدأت حكايتى مع الفضاء عندما كنت طفلا، وكنت مفتونًا بالنجوم والأبراج. كتبت فى إحدى مقالاتي أنى كنت أغمض عينى وأتخيل حالة من العدم المطلق، ومن هنا كانت فكرة الذهاب إلى الفضاء. أتذكر أنه عندما صعد أرمسترونج إلى القمر، كنت فى السجن فى ذلك الوقت، لذا ساعدتنى تمارين الطفولة أيضا فى تحسين حالتى. تلاشت قضبان سجنى بين عشية وضحاها بمجرد تخيلهم على القمر. ثم بدأ استكشاف الفضاء.
ذات يوم، وصلنى عبر البريد، بعض التذاكر المجانية لتجربة محاكاة جهاز طيران فى وسط منعدم الجاذبية، أرسلتهم إليَّ إحدى جمعيات التنمية البشرية التى أنتمي إليها، كنت حينها فى ال70 من عمرى. وبالفعل ذهبت إلى سان خوسيه فى كاليفورنيا، وخضت تجربة الفضاء، وكانت واحدة من أكثر التجارب متعة فى حياتي.
_يأخذ ريتشارد برانسون الناس فى رحلات إلى الفضاء هذه الأيام.
لو جاءني برانسون الآن وقال إنه أوجد لي مساحة فى أحد تلك الرحلات سأنهى هذه المقابلة فورا للذهاب. لا زلت في حالة جيدة بشكل معقول وأظن أننى قادر على تحمل ضغط الجاذبية. أنا مقتنع بأنى أستطيع فعل أى شيء. خذنى إلى الفضاء، وحينها لا أمانع حدوث أي شيء هناك، ومهما حدث لا يهم. ثم لا بدَّ أن أجرب هوس الطفولة.
الترجمة عن موقع:
https://edition.cnn.com/world/africa/wole-soyinka-interview-the-man-died-spc/index.html
|