القاهرة 10 ديسمبر 2024 الساعة 10:30 ص
بقلم: د.حسان صبحي حسان
ينطلق الفن في الأساس كتعبير عن الذات، وتأطير لرؤية الفنان الخاصة تجاه عوالمه الداخلية والمحيطة الخارجية،من خلال خصوصية الوجدان والهوية، بتوالد من كيانه، ثم موروثه الثقافي والاجتماعي والبيئي والتاريخي الحضاري، بهدف الانبعاث الفكري والتجديد وتعزيز الخطاب الفني وتأصيله من فلسفة خاصة وخلفية حضارية وارتباطية بالموروث وسياقاته المعرفية والتاريخية والاجتماعية، والتواصل مع أطياف المعاصرة، لتصبح الهوية ركيزة للانطلاق وفهم الحاضر والتبصر بالعالم من عدسات الذاكرة مع الواقع الراهن، والحضور من خلال الممكنات الفنية، لإيصال الفكرة والصوت الفني، لتصبح عناصر الفنان خيطا بصريا وفكريا متفردا مستلهما من الموروث، ليبحر بها في مدارات معاصرة.
وتأتي الغائية كعلم للغايات والذي يرتبط بمذهب حيوية المادة ونظرية الأرواحية، ومذهب وحدة الوجود. حيث اشتق مصطلح الغائية(Teleology) من الكلمتين اليونانيتين (تيلوس)(الغاية)، (لوغوس) (السبب والتوضيح والتفسير)، بتمثل بذلك الغائيه السبب والتوضيح والاستنباط المنطقي وتفسير الشيء وكوامنه بوصفه تابعا وظيفيا لغايته وهدفه المنتهي المقصود، والعلة هي المكمن وراء أنواع التغيرات. لينحت بذلك مفهوم (التيلوس) كمبدأ تنظيمي في كتاب "نقد الحكم" "لكانط"، والركيزة الفلسفية التأملية " لهيجل". ووفقا لفلسفة " أرسطو" فلكل شيء (تيلوس) وهو الغاية النهائية، والمفترض تحقيقها وتلمس أهدافها ليصبح الكون كله مقصودا، وأن كل شيء موجود وقد تم لصالح هدف محدد.
-
البحث عن الذات وتجسيد أحوال الإنسان المعاصر لدى"حمدي ابو المعاطي":
وفي مدارات النحو عن مشتتات الروح والتوغل في مملكة التجرد، دفع الفنان "حمدي أبو المعاطي" بأشكال مرمزة ومعادلات لترجمات مادية ساحرة ملثمه بطاقات التداعي والغائية، والبوح والتعبير وإمكانات المعاني الباطنة ذات السند النظري لتبصير المتلقي لإسقاط فعل الإبهام والغموض، والانحياز لمنهج فكرى مؤسس على طرح المضمون وما يحمله من معاني كامنة ورسائل أدبية، والتعبير عن الموقف الشخصي تجاه هذا العمل، مع تدعيم العمل الفني بالأجواء الخيالية والشاعرية الغنائية، والارتكال الى أقل عدد من المفردات والوسائط التعبيرية عن طريق اختزال المضمون الفكري بصوره بليغه.
ولد الفنان "حمدي ابو المعاطي"في دكرنس بمحافظة الدقهلية عام 1958، وحصل على بكالوريوس الفنون الجميلة قسم الجرافيك عام 1981، ثم عين معيداً بقسم الجرافيك بالكلية ثم مدرساً مساعداً عام 1988،وحصل على الدكتوراة في فلسفة التصميم الجرافيكي من جامعة فوبرتال بألمانيا 1999. كما أقام العديد من المعارض الخاصة وكان أولها عام 1986 بمجمع الفنون بالزمالك، كما أقام معارض خاصة بألمانيا،وشارك في العديد من المعارض الجماعية في مصر والعديد من الدول العربية والأجنبية كاليابان وبلغاريا وكوريا وكندا والنرويج وشيلي وإيطاليا والهند والصين والكويت.
وحصل على العديد من الجوائز معظمها عن المركز الأول لأعماله من جمعية محبي الفنون الجميلة وصالون الشباب والمعرض العام بالقاهرة، وله العديد من المقتنيات لدى جهات عديدة منها متحف الفن الحديث والمركز الثقافي التعليمي بدار الأوبرا وقاعة المؤتمرات بالقاهرة ومبنى الأهرام الجديد ومتحف كلية الفنون الجميلة بالمنيا وله مقتنيات أخرى بالعديد من الدول العربية والأجنبية ومنها المملكة العربية السعودية والإمارات وسوريا والمغرب وسويسرا وألمانيا وأمريكا وكندا وإيطاليا.
لدىالفنان " حمدي أبو المعاطي" صيغ بصرية وصور مبدعة من الحياة اليومية، لشخوص مع طيور ونباتات في تصريح فني يجسد تمكن واستيعاب الفنان لواقعه وطرق إدراك العالم، ممزوجا مع نستولوجي وذكريات دفينة في شعوره الخاص، والاستيعاب الفريد لموروثه الكنيز، عبر طرق وكيفيات، (وفصاحة تشكيلية) لثوب يستعرض الحقائق الخارجية للعالم نفسه.(وفصاحة نفسية) يكشف بها عن الحالات الشعورية والحوارية لشخوصه داخل خطاباته البصرية (كيف جاءت إلى حيز الوجود الفني، وكيف صبغت بالأحاسيس والتعبير، وكيف صيغت العناصر توازيا مع رسالتها وغايتها، وطرق انسجام المتلقي مع البيئة المناخية للفكرة) لتوصيل المضمون والتعبير عن الحدث.
حيث تصدر الصورة لديه صياغات برؤى دافئة تتماس مع لحن الحياة، لتصدير درجات من الفصاحة الشكلية في جانبها البصري ودرجات التأثير للأشكال الموحية الملموسة التي تعكس حقائق بصريه جوهرية وطبيعة المحتوى التخيلي النابض، واستدعاء الانطباعات والاستجابات من بحر أفكاره، واستلهام (الضوء واللون) كقوالب من أشكال الطاقة الكهرومغناطيسية، وظواهر طاقية كاملة، ليدفع اللون بأدوار تعبيرية ورمزية صيرورة.
لتصبح الرؤية البصرية عند الفنان " حمدي أبو المعاطي" لغة تخاطب وتمتلك مشاعر المتلقي وتدفعه نحو التعاطف مع شخوص العمل والتقارب والاتفاق والاختلاف معهم والحالات الحوارية لهم بشكل مستمر في علاقاتهم الإنسانية وعلاقة الإنسان مع بيئته المحيطه ومفرداتها، حيث تأتي (الإنسانية) بأحوالها وشواغلها ومضامينها وإشكالياتها الواسعة والإحساس المتبادل والعلاقات والتفكير المشترك والكلية، كمرتكز لأطروحات الفنان نحو البحث عن معالم الجمال ومظاهر الخيال، والتنقيب في الأصول والغائية لمباغته وجدانية الجمهور بمعالجات تعبيرية ذاتية ودلالات رمزية، تدفع للتجاوب والتحليق داخل العوالم المصاغة والاستماع لموسيقى اللون والخط ومعالجات الأسطح.
وتتجلي لديه (المرأة) كعنصر رئيس في علاقات تبادلية وترابطات تكوينية متمايزة، وتمثيلها للجانب الإنساني عبر وجدانيات مع (طيور أسطورية، ونباتات حالمة) في حوارات نابضة (رومانسية أحيانا، وعاطفية أو صراعية تنافسية أحيانا أخرى) لتجسيد حالات ومواقف إنسانية مجتمعية، عبر اختزال خطي بليغ، وتجلي بين العناصر في (حالات الاسترخاء والتأمل والحنين والتعب والهمة والنشاط والشجن والفرح والإقبال والانطواء) وذلك عبر عناصر التشكيل مثل (المساحة واللون والملامس والكتل والظل والنور والبلاغة التعبيرية للخط) لتأكيد الثابت والمتحرك والتوتر السطحي، وتأسيس دينامية داخل العمل. حتى تنطوي ضمنية الرسالة الفنية، كما أشار الفنان الروسي "كاندنسكي" بصورة غامضة على حياة كاملة (حياه مع العذاب- حياه مع الشكوك- حياه مع الفرح- لحظات من الحماس - ومضات مع الإلهام).
-
"الغائية" ما بين الموسيقى والروحيوقوة الفن:
ترتكل "الغائية" كنظرية لحتمية أن كل ما في الطبيعة وأنساقها وجوانياتها يتوجه لتحقيق غاية، والغايات الجزئية الكونية مرتبطة بغاية كلية واحدة، ليصبح للكون معنى وهدف وغاية تتجاوز الحركة المادية المباشرة، وأن هناك غاية عليا تعطي كل شيء محدد وقيمة، لتأتي العلة الفاعلة باعتبارها أمرا حتميا وأن الأشياء تحضر نفسها لعالم الحقيقة بتدخل علّة فاعلية ذات تأثير حقيقي، وهو ما أكد عليه ودلل به " أرسطو" بأن المبدأ الذي تتحرك فيه الأشياء بنهج تتيم صورها التي هي وجودها بالفعل.
ولأن الفن الرابط الرئيسي للوساطة بين العالم الخارجي والحواس ووسيلة الفهم والتفاهم واليقظة والتركيز على اللحظة ومفتاح تفسير الحكمة ونقل المفاهيم والأفكار المعقدة التي يصعب صياغتها لفظيا ومعادل للحقيقة
فقد جاءت أطروحات الفنان "حمدي أبو المعاطي" تعبر عن الأفكار الروحية والاقتراب من الفهم للمطلق، وإكساب زمان الفعل التصويري معاني ذهنية جديدة خارج الحدود المادية البصرية. ليتعاظم ويتسم بذلك الخطاب البصري البليغ للفنان "حمدي أبو المعاطي" بتنوع التقنيات والوسائط والهيكلية البنائية وخامات التنفيذ، مثل (الاكريليك والحبر الشيني وألوان الباستيل) لتأكيد (الهوية المصرية) و(التقاليد) في حداثة أسلوبية تستقي التجريدية التعبيرية والرمزية كروافد تعلي من الحقائق والغائية المرمزة ذات الأبعاد العميقة التي تؤكد الملامح.
وتمثل أعمال الفنان قراءة بصرية لأطروحات فنيه تبوح بطاقات روحانية وأحاسيس تعبيرية لها أبعادها ودلالاتها، ذات المعاني الكثيفة ورهافة الصور الموحية والتي يتوازى فيها (الخيالي مع الواقعي، والفلسفي الوجودي البصري مع البنائي الرصين ذو الحبكة الإنشائية ذات القيم الجمالية والفنية) فضاء ساحته (المجال الفراغي المغناطيسي) والذي يتماطر فيه (السحر البصري مع الرؤية الفلسفية التعبيرية- والحالات الحسية المكينة) التي تشحذ التصعيد الدرامي لنصوصه الصيرورة.
-
الهوية والمعاصرة وحداثة الطرح:
تتسم الأشروحات الفنية للفنان "حمدي ابو المعاطي"بالطابع المصري الرصين، وترسيخ هوية دامغة،عبر(هوية ذاتية) تتوالد من الكيان الوجداني للفنان كنتاج لمفهوم وفلسفته من العالم المحيط، و(هوية الكيان) والتي تختص بمخزون الفنان من أفكار وثقافة وخبرات وجدانية مستمدة من المجتمع ومدى تأثره بها، كنبض وصدى لإيقاع راهنية العصر في أفق أسطورية خارج حدود الإطار، من خلال رمزية من خلال علاقة الدال والمدلول، وتسطير فضاء فراغي تصويري غير مقيد، ذو براح متجاوز في ذات الوقت للقوانين البصرية الاعتيادية.
فعبر قدرة مكينة في طرق الأداء ومسارات التعبير عن أفكاره، استلهم الفنان" حمدي أبو المعاطي" عناصره من مدارات تراثية تعلي (الفن المصري القديم وجماليات الفن الإسلامي وبراعة الفن القبطي) ليؤسس لرؤية فنية منسجمة تلامس الروح والغائية ذات جذور ثابتة يحلق من خلالها بخيال وطموح وحضور ووعي معرفي، واكتشاف للذات بصيغات تتسم بالتحديث والمعاصرة والوفاء لفعل العاطفة، لصالح التوازي مع حالات وجدانية متدفقة وشحنات انفعالية، غير مشوشة بصريا في تشكيلات تستدعي المتلقي وتجبره لاقتحام دواخلها، والتنزه بجوانيات العمل، للتحدث مع العناصر والتحليق مع الطيور والهيم في الفراغات الأثيرية.
|