القاهرة 10 ديسمبر 2024 الساعة 10:19 ص
بقلم: نوال مهني
الشعر ذلك التعبير الراقي الجميل، الذي يسحر الألباب ويستميل القلوب لأنه نبض الوجدان وهمس الروح، هذا التعبير الذي يدل على إحساس مرهف، ويهدف إلى السمو بالأذواق.
الشعر هو شعور متدفق بالعواطف النبيلة، والقيم العليا، وهو نهر من الحب والعطاء، ولا أزعم أنني أقدم تعريفا جامعا مانعا للشعر كما يقول أهل المنطق، بل أرى أن ـ هكذا ينبغي أن يكون الشعرـوفي العصر الحديث، أصبح ظهور الشواعر المصريات ظاهرة واضحة ومتميزة في ساحة الأدب وغطى إنتاجهن مساحات كبيرة في الحقل الثقافي، وأصبحن ينافسن الشعراء وربما يتفوقن عليهم أحيانا.
ولعل الشاعرة إيمان يوسف من بين المجيدات اللائي فرضن وجودهن بعطائها المتميز وثراء موهبتها.
أصدرت الشاعرة عدة دواوين نالت استحسانا كبيرا من القراء والنقاد، وقد اختارت الشاعرة اللهجة العامية المصرية لكتابة أشعارها، ربما لأنها أقرب إلى عامة الشعب وبذلك تصل بإبداعها إلى أكبر عدد من القراء. وهي غزيرة الإنتاج وأصدرت أخيرا الأعمال الكاملة في جزأين كبيرين، وبين أيدينا الآن هذا الديوان الذي اختارت له عنوان ــ متغربة جوه الوطن ـ والحقيقة أن جل المبدعين يشعرون بالاغتراب حتى وهم بين ذويهم لأن المبدع سابق عصره، ويتخيل أشياءً قد تحدث لاحقا ولذا فهو ينفصل فكريا -أحيانا ـ عمن حوله لذا فظاهرة الاغتراب شعور مشترك بين المبدعين .
في هذا الديوان تتناول الشاعرة إيمان عدة قضايا، بعضها عام وبعضها خاص وعبرت عنها بإحساس صادق وأسلوب رقيق .
يمكن القول أن الديوان يدور حول محورين رئيسيين هما الأمومة والوطن بدأت الديوان بمقدمة نثرية فيها تخاطب ابنها الوحيد بإحساس جارف من الحنان والحب والعطف والتعلق بهذا الابن فتقول :
(يا ابن العمر يا من تسترق القلب وشغف الإحساس، يا منجاي وظلالي لا تزيد هجيرك فالقلم والكلمات والمشاعر والدفقات حبيسة الرجاء المتقد بالبوح والتوسلات فلا تغترب) وتستمر في استعطافها وتوسلها له حتى لا يسافر ويغترب، (ابني يا نجمتي، شمسي أرضي، ياروح القلب وقلب الروح، يا وطني لا تغترب وتترك لهفتي دون إغاثة ) كان بودي ـ لولا ضيق الوقت ـ أن أكمل قراءة هذه المقدمة النثرية، فهي قطعة بديعة من النثر الفني الجميل، ربما تفوق الشعر حلاوة وطلاوة .
الشاعرة ترى في ابنها الأب والأخ إنه هدية من الله سبحانه وتعالى، والامومة خصوصية للمرأة لا يمكن أن تتنازل عنها بل ترى أن وجودها في الحياة لا يكتمل إلا بها، وتضحي في سبيلها بكل غال ونفيس، وقد سيطرت عاطفة الأمومة على الشاعرة ولذا أفردت لها عدة قصائد بالديوان مثل قصيدة ـ ابني حبيبي حقك عندي ـ تقول فيها :
لما تزعل مني يا قلبي
بالله قولي تصالح مين ؟
بالله عليك لتقولي يا بني
مين اللي يحبك قدي !
ولما تزعل مني يا قلبي
طيب مين ح يطيب خاطري
ويسند ضهري !
ثم تذّكره عندما كان صغيرا، حينما كان يناديها بكلمة ماما الحبيبة إلى نفسها .
فتقول فيالقصيدة نفسها :
مين يرضيني !
بكلمة هدية تقوي سنيني
كلمة ماما
فاكر لما كنت صغير وبتسألني :
ماما حبيبتي بتحبيني ؟
كان القلب يطير م الفرحة
يا روحي وعيني
ــ وبالديوان قصيدة أخرى بعنوان
هدهدتني ـ تقول فيها :
ابني حبيبي كلمتني هدهدتني .
صوتك، ضحكتك
دي قوتك من رقتك ــ إلى أن تقول:
وجودي بوجودك بيمحي آه
من وجع الحياه .
وقد أبدعت الشاعرة في تصوير عاطفة الأمومة الجياشة المتدفقة كنهر من حنان بأسلوب رقيق يفيض عذوبة وجمال، ومعان في غاية السمو والصدق الوجداني .
وإذا انتقلنا للمحور الثاني وهو القصائد الوطنية، وبعضها كتب قبل ثورة 25 يناير / 2011 وبعضها كتب أثناء وبعد الثورة التي تمتدحها الشاعرة.
وقصائد ما قبل الثورة تأسف الشاعرة على ضياع الوطن وفقدان الحريةوضعف الانتماء وعدم الإحساس بالأمان، مثل كل المصريين، الذين سأموا حياة القهر والخنوع، فغادرت البهجة قلوبهم وخاصمت البسمة وجوههم وحل محلها الحزن والكآبة .
ولنصغي إليها في قصيدة بعنوان ـ فين الوطن ـ وكأنها تبحث عن شيء ضائع فتقول :
فين الوطن يا اولاد الحلال
لا سامع بكايا ولا سامعة نداه
وحشاني الحبايب وشوق الصحاب
وساعة المغارب على شط غاب
وآه يا ابتسامة مفارقة الوشوش
على هم طافح وسايب رتوش
على جبين الخلايق
وهكذا تتوالى القصائد الخاصة بالثورة، وهي تقارن أحيانا بين حال مصر قبل الثورة وبعدها مثل قصيدة ـ حمد الله ع السلامة يا مصر ـ حيث تقول :
حمد الله ع السلامة
دا شعبك كان غريق ْ
في قلب ليل عميق
بعناصر قادرة تقتل
في مذنب أو برئ
انسان من نوع ردئ
شيطان جواه حريق ْ
وأما في قصيدة ـ صوت الميدان ـ فيبدو إيقاع القصيدة السريع وكأنه هتاف حماسي أو غناء الجماهير.
يا صوت الميدان ـــ يا مخلص ورائع
تهب ف صدونا ـــ بثـورة مواقع
بروح ليها دافع
يا ثورة عفية ـــ وزهرة ندية
زعامة وكرامة لإسقاط مطامع
وفي قصيدة أخرى بعنوان ـ مسروق يا خير بلدنا ـ تقول :
مسروق يا خير بلدنا
محروم منه ولادنا
وشبابي تمنه إيه ؟
عطونا الباقي منهم واتهنوا همَ بيه
يا فسادهم يا اللي فيه
طغيان، جشع وصابهم
ربي بالمرصاد رصدهم
وهكذا تعيش الشاعر هموم مجتمعها وقضايا وطنها، وتعبر عما يعانيه شعبها حتى قامت الثورة التي هلل لها الشعب وكبر عسى أن يتغير الحال وتنهض الأمة من كبوتها. بعد ما أصابها الخمول والركود لعدة عقود نتيجة لسياسات الحكومات الفاشلة .
والمتأمل لقصائد الديوان يلاحظ عدة سمات منها :
1ـ الشاعرة تبدو أحيانا حالمة مغرقة في الرومانسية، وأحيانا أخرى ترصد الواقع بموضوعية شديدة .
2ـ الشاعرة ذات نزعة إصلاحية، فكثيرا ما تسدي النصيحة للقراء وتدعوهم للتوحد ونبذ الفرقة والاعتصام بالإيمان .
3ـ الانتماء والحب الشديد لوطنها مصر، وتكثر في أشعارها مفردات النيل والبحر والإسكندرية ـ مدينتها التي تعشقها .
4ـ ألفاظ الشاعرة موجزة ومهذبة، فلا نجد في قاموسها لفظة غريبة أو نابية أو تعبير غامض أو مبتذل، وهذا يدل على طهارة القلب وصفاء النفس وصدق الشعور .
5ـ بالديوان بعض الهنات البسيطة في الوزن أو التعبير متل كلمة ـ لا تزيد هجيرك ـ والصواب هجرك ـ لأن الهجير هو الحر الشديد ـ وأمثلة أخرى لكنها قليلة لا تقلل من قيمة الديوان .
والخلاصة أن الشاعرة إيمان يوسف قامة أدبية في مجال الشعر العامي وهي شاعرة جادة، لها حضور ظاهر في حقل الأدب، فرضت وجودها باجتهادها ومساهماتها وتفاعلها وثراء موهبتها، وهي أيضا قامة إنسانية كبيرة، كما عرفتها تتحلى بالصدق والأمانة والأصالة.