القاهرة 04 ديسمبر 2024 الساعة 12:22 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
حاول أفلاطون التفرقة بين ما يعرف بالمعرفة، وما يعرف بالإدراك الحسي، فإذا سلمنا القول بأن 2+ 2 = 4 هذا ما يعرف بالمعرفة، ولكن إذا قلنا إن الفحم لونه أسود، فقد يقابل ذلك بعدم اليقين في بعض الأحيان وخاصة من الفلاسفة، فماذا تقصد أولا بالفحم؟ وفي أي مرحلة منه؟ فالفحم عند اشتعاله يكون أحمر وليس أسود، وبعد أن ينتهي دوره فلونه يصبح رمادي وليس أسود، وهذا ما يعرف بالمعرفة الحسية، ولعلنا نستطيع أن نرد هذه النظرة إلى أصولها عند بارمنيدس، ولكن أفلاطون هو الذي صاغها بصورتها الصحيحة في محاورة "تياتيتوس"، والتي تحاول هذه المحاورة أن تجد تعريفا لكلمة "معرفة".
ويورد برتراند راسل على لسان تياتيتوس هذه الكلمات:
"إنه ليُخيَّل إليَّ أن من يعرف شيئًا إنما يدرك بحواسه هذا الشيء الذي يعرفه، فلست أرى الآن رأيًا سوى أن المعرفة هي الإدراك الحسي، ولا شيء غير الإدراك الحسي".
ويقول سقراط إن هذا الرأي هو نفسه رأي بروتاجوراس الذي يقول: إن الإنسان مقياس كل شيء. أعني أن أي شيء «هو بالنسبة لي ما يظهر لي منه، وهو بالنسبة لك ما يظهر لك منه». ثم يضيف سقراط إلى ذلك قوله: «فالإدراك الحسي إذَن هو دائمًا شيء كائن، وهو باعتباره سبيلًا للمعرفة لا يتطرق إليه الخطأ"
ويحاول الفلاسفة إثبات وبرهان أن أي إدراك حسي يستحيل أن يكون معرفة، لأن كل شيء في تغير دائم، وهو نفس مذهب بروتاجوراس وهرقليطس، بمعنى أن كل شيء مهما كان ثابتا ذاهبا في طريقه إلى التغير، ويصدق على ذلك أفلاطون على الرغم من أن كثيرا من موضوعاته لا تنطبق على المعرفة الحقة.
وتعالوا نوضح الأمر في عدد من الألغاز كما أوردها راسل، فيقال مثلًا إنه ما دام العدد 6 أكبر من العدد 4، لكنه أصغر من العدد 12، فإن 6 تكون كبيرة وصغيرة معًا، وفي هذا تناقض، كذلك يقال أن سقراط الآن أطول من تياتيتوس الذي لا يزال غلامًا لم يرشد بعد، لكن سقراط سيكون بعد بضعة أعوام أقصر من تياتيتوس؛ إذَن يكون سقراط طويلًا وقصيرًا في آنٍ واحد؛ فالظاهر أن فكرة القضية ذات العلاقات، قد أربكت أفلاطون كما أربكت معظم الفلاسفة الأعلام حتى زمن هيجل (بما في ذلك هيجل نفسه).
ثم يعود الحوار إلى موضوع الإدراك الحسي، فيُعزى إلى تفاعل بين الموضوع المحس وعضو الحس، وكلاهما -بناءً على مذهب هرقليطس- متغير أبدًا، ثم كلاهما في تغيره يغير الصورة الحسية المدرَكة، فيلاحظ سقراط أنه وهو معافًى يجد الخمر حلوًا، لكنه يجده مرًّا وهو عليل، فها هنا تغيُّر المدرِك هو الذي يُحدِث تغيرًا في الصورة الحسية المدرَكة".
أنه مهما يكن من أمر التغير الدائم الذي يصيب الأشياء، فلا بُدَّ أن تكون معاني الكلمات ثابتة، على الأقل مدى فترة معينة؛ إذ لولا ثباتها لما تحدد معنى عبارة تقال، ولما صح أن توصف عبارة بالصواب دون الخطأ، لا بُدَّ أن يكون ثَمة شيء ثابت، مع التهاون في معنى الثبات، ذلك إن أردنا أن تصبح المعرفة أو المناقشة في حدود الإمكان.
خلاصة القول أن الادراك الحسي لشيء إذا كان ثابتا فهو معرفة، أما إذا كان متغيرا فهو يظل في طور الإدراك الحسي حتى يثبت إذا كان مقدر له الثبات، هذه القضية الفلسفية قضية مهمة وكبيرة لأنها تنسحب ببساطة على الكثير من المدركات سواء أكانت سياسية أو اجتماعية او اقتصادية، جميعنا يعلم أن هذه التي تشرق صباحا هي شمس، ولكن في السياسة والاقتصاد فالتي تشرق صباحا ترتبط بالإنتاج وبالعمليات السياسية، أما السياسة نفسها فهي تتغير مثل المثل السياسي الشهير أصدقاء اليوم أعداء الغد والعكس.
|