القاهرة 03 ديسمبر 2024 الساعة 11:17 ص
بقلم: د. هويدا صالح
"حفريات في الذاكرة من بعيد" الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، هو سيرة ذاتية للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، لكنه ليس سيرة ذاتية صريحة، بقدر ما هي كتابة تقترب من التخييل السردي، أو ما يسمى نقديا سردا سيريًا أو سير ذاتيا.
ورغم أن المفكر الكبير الذي عُرف بكتبه التي تعيد قراءة التراث العربي الإسلامي، ومساءلته، وتنظيم وضبط مفاهيمه وترتيب محتوياته، وقدم للقارئ العربي موسوعة "نقد العقل العربي" بأجزائها الثلاثة، إلا أنه يقتحم في هذا الكتاب جنسا أدبيا جديدا، يقوم فيه بقراءة حياته الطويلة التي يشبهها "بنقطة الماء التي ستتحول إلى نهر".
إنه لا يقدم سردا تاريخيا يتوخى الاستقصاء، ويتقيد بالتسلسل الزمني، بل يقوم بتحليل ما مر به من أحداث مع نوع من التأويل لما ينتخبه من أحداث حياته. إنه يقوم بتعرية لمرحلة الصبا والمراهقة وأوائل الشباب، كأنه يقوم بحفر إركيولوجي لوقائع حياته سعيا إلى "إعطاء معنى لمعطيات الذاكرة" بحسب تعبير الكاتب في مقدمته. ورغم أن الكاتب ينتقي الأحداث، ولا يقدمها بتسلسل زمني إلا أنه يعي الفرق تماما بين سيرة تعتمد على الانتقاء والانتخاب وبين السيرة الذاتية الصريحة التي عرفها الغرب مثلما كتب مثلا جان جاك روسو سيرته الذاتية بكل تفاصيلها وعرى فيها الذات والمجتمع والثقافة. إنه يخبر القارئ بوضوح أن ما يقدمه له: "ليس هنا قصة ولا تخيل ولا خلق ولا ابتكار ولكن فقط مواد تعبر عن وجودها في الزمن".
إن أول سؤال يفتتح به الجابري تقديم كتابه هو: "هل يتعلق الأمر بجنس في الكتابة جديد، أم بمجرد اسم آخر يضاف إلى قائمة الأسماء التي تطلق على جنس أدبي معروف منذ القديم، يسمى تارة بــ "السيرة الذاتية" وأخرى "اعترافات" وثالثة بــ "مذكرات" ...؟ " (ص 7). وفي الحوار الذي نشر في نهاية الكتاب، يوضح الجابري رؤيته لأسئلة الكتابة في هذا لكتاب المميز، فيقول: "على أنني اخترت اسما لما كتبت يختلف عن الأسماء الرائجة تجنبا لكل التباس. لقد قمت بــحفريات في الذاكرة.. فالأمر لا يتعلق بمجرد سرد وحكي وإطلاق العنان لــ "ثرثرة الذات" ... ولا بمجرد إطلاق العنان ــ إلى حد ما ــ للذاكرة لكي تتقيأ ما فيها ... "(ص 227 ).
إن الجابري ابن الصحراء ومدينة الواحة صور لنا مرابع طفولته في تلك البيئة الهامشية على خط الحدود الذي أقامه الفرنسيون بين المغرب والجزائر في أوائل القرن العشرين، وهذه البيئة التي تحتل القسم الأكبر من مسرودة الجابري هي من بوابات الصحراء، ومحطة من محطات القوافل التجارية التي كانت تنتقل من بلاد سوس على المحيط الأطلسي إلى صعيد مصر. يقوم الجابري في سردياته بالتركيز على مرحلة تمتد من الطفولة الأولى إلى الانخراط في "سلك الرجال"، يقوم باستحضار ما بقي من الذكريات والوقائع الشخصية والجماعية مؤكدا على فكرة القراءة الأركيولوجية في هذه الوقائع والذكريات الشبيهة بالقطع الأثرية، مع إعطاء معنى لهذه الوقائع والذكريات كما يعطى المعنى للقطع الأثرية.
يتكون الكتاب من تقديم نظري، وخمسة فصول تركز على قراءة أهم الوقائع والذكريات التي بقيت صامدة في النفس. يقسم الكاتب فصوله الخمسة إلى محطات جنينا في بطن أمه ما سيجعله يتربى في كنف أخواله، وهي مرحلة ستوصف بكثير من المرارة والتأسي. والمحطة الثانية منطلقها مطلع الخمسينيات بالانتقال إلى مدينة الدار البيضاء لاستكمال الدراسة الثانوية، وحيث تعترض الفتى أزمة مالية حادة توشك أن تصرفه عن طموح التعليم ليصبح خياطا أو عامل نسيج. و المحطة الثالثة من المغرب إلى دمشق، ضمن الأفواج الأولى من المغاربة الذين التحقوا بالمشرق العربي، وشكلوا لدى عودتهم عقب تخرجهم، الحائط الصد الذي دافع عن استقلال المغرب وهويته العربية. ويعتبر هذا الجيل طليعة التيار العروبي القومي في الثقافة والسياسة المغربية الحديثة.
إن هذه المحطات الشخصية هي الأساس في هذا الكتاب، وضمنها محطات صغرى تتقاطع مع جملة أحداث اجتماعية وسياسية وثقافية أكثرها إشعاعا التبلور الفعلي لحركة المقاومة المغربية ضد الاستعمار (1953)، والتكوين الفكري والإيديولوجي للنخبة المغربية العروبية الثانية، وكذا بدايات التشكل الوطني التقدمي أو إرهاصات ظهور التيار الديمقراطي التحرري سليل الحركة الوطنية المغربية.
هناك عنوان فرعي للكتاب لا يخلو من دلالة: "من بعيد" مصاحب للعنوان المركزي: "حفريات في الذاكرة"، وفي الحوار الذي يأتي في نهاية الكتاب يوضح الكاتب المقصود بهذا العنوان الفرعي فيقول: "إنني جئت من بعيد، من عصر آخر، من وضعية أخرى، ولنقل ولدت في ظروف تنتمي إلى القرون الوسطى، بينما أنا أعيش الآن ظروفا تنتمي إلى مشارف القرن الواحد والعشرين"(ص 232 ).
من خلال هذا العنوان الفرعي: "من بعيد" يبدو الزمن هو البطل الرئيس فالكاتب المعاصر قادم من زمان بعيد، إذ نشأ في ظروف تنتمي أبعد ما يكون عن الحداثة، لكنه وقت كتابة سرده السيري يجد نفسه في زمان آخر لا ينتمي إلى عصر الحداثة فقط، بل ينتمي إلى ما بعد الحداثة. وبهذا، يبدو الكاتب منقسما بين الزمن الماضي والزمن الحاضر. وقد أشرنا سابقا إلى المكان الصحراوي ومن ثم انتقاله إلى المكان المديني سواء في الدار البيضاء أو دمشق، وبالنظر إلى العنصرين معا، الزمان والمكان، يبدو أن مهمة الكاتب المعاصر هي أن يحفر بحثا عما تبقى من آثار ذلك الزمان وذلك المكان، أي أن يعطي معنى لذلك الزمان الماضي، وأن يعيد الحياة إلى ذلك المكان الأول.
اللافت للنظر أن الكاتب وهو المفكر والفيلسوف لا يتحرج من ذكر تفاصيل أوهام طفولته، وذلك التمازج الذي كان يحدث بين كل الكائنات في هذه البيئة الصحراوية، فالجن والإنس يتعايشان سويا، ثمة تعايش بين الكائنات الإنسانية والحيوانية وكذلك المرئية واللامرئية: "الأطفال والأمهات والآباء والإخوة والأقارب، والحيوانات والطيور والزواحف والحشرات والجن والملائكة والقمر والنجوم، كل هذه الكائنات كانت تسكن فضاء واحدا تربطها مع بعضها علاقات الألفة والمعاشرة، علاقات "المعرفة .. الجميع يعرف القمر، والقمر يعرف الجميع"(ص19).
يتميز السرد الأركيولوجي بنوع من الحنين إلى زمن ماض هارب، وكأن مهمة الكاتب هي محاولة إحياء ذلك الماضي الهارب دون التحرر تماما من الإحساس بضياعه. وكأن الكتاب غوص نحو العمق، لكشف الهوية الفردية والجماعية، وكأنها رحلة عالم أنثربولوجيا يحاول أن يكشف عن حفريات الجماعة التي ينتسب إليها المفكر الكبير.
|