القاهرة 25 نوفمبر 2024 الساعة 12:20 م
بقلم: سهى زكى
ما أصعب الكتابة حين تمتزج الكلمات بالحزن والحنين، حين يصبح الغياب حضورًا طاغيًا لا يمكن تجاهله.. خبر رحيل الفنان كمال خليفة أصابني بصدمة عميقة، لم يكن مجرد خبر عن فقدان شخص عابر، بل كان إعلانًا عن غياب روح ظلت تنبض وسط شوارع وسط البلد، تلك الشوارع التي عاشت خطواته، واحتضنت ملامحه، وارتبطت بأحاديثه الدافئة مع الجميع.
في الساعات الأخيرة قبل أن يغادرنا، بدا وكأنه يودع الحياة على طريقته الخاصة.
مرّ على تلك الشوارع التي أحبها واعتاد أن يمنحها من روحه، واتصل بأصدقائه ليترك لهم كلمات وداع أخيرة دون أن يدري أنها الأخيرة.
حتى صفحته الشخصية لم تخلُ من رسالته الأخيرة، عندما كتب بوست قال فيه: "ونكمل غدًا بإذن الله". لكن ذلك الغد لم يأتِ، وتركنا جميعًا في حالة من الصمت والذهول أمام غياب لا يُعوّض.
وسط البلد ستفتقد خطواته، والمقاهي ستفتقد حضوره البسيط والعميق في آن واحد، وصفحته ستبقى شاهدة على إنسان حمل في قلبه المحبة للجميع.
برحيل الفنان كمال خليفة، فقد الوسط الثقافي المصري أحد أعمدته الراسخة، ورمزًا للوفاء بتاريخنا الثقافي الذي سعى جاهدًا للحفاظ عليه ونقله للأجيال.
لم يكن مجرد فنان، بل كان حارسًا أمينًا لذاكرة الفن والثقافة، وصوتًا حاضرًا للتاريخ من خلال دوره المحوري في "أتيليه القاهرة"، تلك المؤسسة العريقة التي طالما كانت منبرًا للإبداع والحوار الثقافي.
وكان من خلال صفحته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، يذكرنا يوميًا بتلك الرموز التي أثرت حياتنا الثقافية والفنية بمبادرة استثنائية تحمل عنوان "الراحلين في موكب النور"، كان ينشر يوميًا عملًا فنيًا لفنان كبير، مضيفًا بذلك بصمة وفاء وتقدير لهؤلاء الذين تركوا أثرًا خالدًا في حياتنا.
لم تقتصر جهوده على نشر الأعمال الفنية، بل امتدت إلى نشر صور ندوات "أتيليه القاهرة"، وصور عمالقة الأدب والفن الذين شاركوا في إثراء تلك المنصة الثقافية، ليصبح بذلك ذاكرة متحركة للمكان وأهله.
كمال خليفة كان إنسانًا نقيًا وشفافًا، يحمل قلبًا مفعمًا بالمحبة والود للجميع ، كان يستقبل كل من يطرق بابه بحفاوة ورقي، وكان حضوره يلهم التفاؤل حتى في أصعب الظروف.
في ليلة العزاء التي أقيمت له، تحولت المناسبة إلى احتفالية تحمل بصمته الإنسانية، إذ اجتمع فيها أصدقاؤه وزملاؤه وأعضاء الجمعية العمومية للأتيليه من مختلف المشارب والأفكار، مستذكرين شخصيته الطاهرة وكأنه لم يفارق الحياة.
كان بنشر صور ندوات أتيليه القاهرة، وصور عمالقة الأدب والفن الذين شاركوا في إثراء تلك المنصة الثقافية، ليصبح بذلك ذاكرة متحركة للمكان وأهله.
* صفات إنسانية فريدة
على المستوى الإنساني، تميز كمال خليفة بشخصية جامعة ومحبة، كان يملك قدرة استثنائية على التواصل مع الناس على اختلاف خلفياتهم وأفكارهم.
كان متواضعًا بشكل يندر أن نراه، لا يفرق في معاملته بين صغير وكبير، بل كان يفتح قلبه للجميع بنفس الحفاوة والمودة. صفة الاستماع الجيد كانت من أبرز ما ميزه؛ كان ينصت لمن حوله باهتمام، مشاركًا همومهم وأحلامهم، ومقدمًا النصيحة الصادقة بروح الأب والأخ.
و كان حريصًا على مد جسور التواصل في أصعب الأوقات، فلم تمنعه التحديات أو الضغوط من أن يظل قريبًا من أصدقائه ومعارفه.
في الأزمات كان دائمًا أول الحاضرين، يدعم الجميع بكلمة طيبة أو لفتة إنسانية.
و على المستوى الاجتماعي، كان كمال خليفة مثالًا يحتذى به في بناء العلاقات الإنسانية. استطاع أن يجمع بين مختلف الأطياف داخل أتيليه القاهرة، حيث كان الأتيليه بالنسبة له ليس مجرد مكان، بل مساحة للتلاقي والتفاعل الثقافي والاجتماعي، كان يملك موهبة فريدة في تقريب وجهات النظر وتهدئة الخلافات، ما جعله محبوبًا لدى الجميع.
من أبرز ما يميزه قدرته على تحويل اللحظات اليومية البسيطة إلى تجارب ثقافية غنية، كما فعل مع جلسات المقهى اليومية التي كان يطلق عليها "ونسة الأحباب"، والتي أصبحت ملتقى ثقافيًا مميزًا في قلب باب اللوق.
كانت جلسات "ونسة الأحباب" أشبه بواحة للراحة والتفكير والتواصل، حيث كان كمال خليفة يجمع الأصدقاء والمعارف من مختلف المجالات على طاولة واحدة. ببساطته وروحه الطيبة، استطاع أن يُحول تلك الجلسات من لقاءات عابرة إلى منصات للحوار الثقافي والإبداعي. كان الحضور يضم أدباء وفنانين وصحفيين ومهتمين بالشأن العام، ما جعل المقهى مكانًا يعج بالنقاشات المثمرة التي تناولت قضايا الأدب، والفن، والمجتمع.
* روح الأتيليه في جلسات المقهى
كمال خليفة حمل روح "أتيليه القاهرة" معه إلى تلك الجلسات ، كان يبدأ كل لقاء بحكايات عن رواد الفن والثقافة الذين أثروا في حياتنا، ويسرد قصصًا ملهمة عن كفاحهم وإبداعاتهم وهذا الطابع الثقافي جعل من "ونسة الأحباب" أكثر من مجرد جلسة للحديث، بل مساحة تعيد إحياء القيم الفنية والإنسانية التي كان يؤمن بها.
* ملتقى متعدد الأجيال
ما ميز تلك الجلسات هو تنوع الحضور فقد كان خليفة يحرص على دعوة الشباب من المبدعين الناشئين ليتفاعلوا مع الخبرات الكبيرة ، كان يؤمن بأن التقاء الأجيال هو المفتاح لاستمرار مسيرة الثقافة، فكان يشجع الجميع على المشاركة وطرح أفكارهم بحرية، ما أضاف بُعدًا تعليميًا وثقافيًا للجلسات.
رغم الطابع الثقافي العميق لتلك الجلسات، إلا أن خليفة كان حريصًا على أن تظل الأجواء مليئة بالمودة والمرح ، فيحتفل بأعياد ميلاد أصدقاءه علي المقهى ويرتب المفاجآت المبهجة لهم ، وعلى طاولته التقى احباب وتزوجوا وأصبح له احفاد من اولاد كثيرين اعتبروه ابوهم الحقيقي وليس الروحى فقط كان يقدم لكل من يحضر كوبًا من الشاي ويقول: "المقهى هنا قلبه مفتوح قبل أبوابه"، مؤكدًا على قيمة البساطة والتواصل الإنساني.
أزمة الأتيليه
لم يقتصر دور الفنان الراحل كمال خليفة على كونه حارسًا لذاكرة الفن والثقافة، بل كان أيضًا مناضلًا من أجل الحفاظ على القلاع الثقافية العريقة، وعلى رأسها "أتيليه القاهرة"، في سنواته الأخيرة، شهد الأتيليه أزمة كبيرة كادت أن تعصف بتاريخه الممتد لقرابة قرن، بعد الدعوى المرفوعة لحل الجمعية العمومية من قبل وزارة التضامن الاجتماعي، والتي تنتظر الحكم يوم 22 ديسمبر 2024.
في مواجهة هذه الأزمة، كان كمال خليفة صوت العقل والوفاء، يدعو الجميع للتضافر والعمل المشترك لإنقاذ الأتيليه من مصير قد يطوي صفحة من تاريخ الثقافة المصرية. عبر صفحته الشخصية ولقاءاته اليومية، لم يتوقف عن إطلاق نداءات متكررة تُشدد على أهمية الحفاظ على هذه المؤسسة التي جمعت كبار الأدباء والفنانين على مدار عقود.
رأى خليفة أن الحل يكمن في تفعيل روح التعاون بين الأعضاء والمحبين للأتيليه، بعيدًا عن الخلافات الشخصية أو الأيديولوجية وطالما دعا إلى ضرورة تقديم مقترحات عملية للخروج من الأزمة، بما في ذلك تنظيم فعاليات تُبرز أهمية الأتيليه كمنارة ثقافية، وإطلاق حملات دعم وتوعية بأهميته في الحفاظ على التراث الثقافي المصري.
لم يكن خليفة يتحدث فقط إلى أقرانه، بل كان يوجه رسائل خاصة للأجيال الجديدة، محذرًا من خطورة التفريط في تلك المؤسسات الثقافية التي كانت شاهدًا على تحولات مصر الإبداعية. كان يقول دائمًا: "إذا فقدنا الأتيليه، نفقد جزءًا من روحنا الثقافية، ولا يمكن تعويضه بأي شكل."
* نضال حتى آخر لحظة
حتى أيامه الأخيرة، كان خليفة حاضرًا في قلب المعركة للحفاظ على الأتيليه، لم يمنعه المرض أو التحديات من المشاركة في الاجتماعات والتواصل مع الجهات المختلفة لإيجاد حلول للأزمة ، كن يؤمن بأن الثقافة هي السلاح الأقوى لمواجهة التحديات، وأن الأتيليه ليس مجرد مكان، بل روح تجمع عشاق الفن والأدب على اختلاف توجهاتهم.
ترك كمال خليفة إرثًا من المسؤولية تجاه أتيليه القاهرة وكل المؤسسات الثقافية المصرية ، وحمل الأجيال القادمة رسالة واضحة: " أن الحفاظ على الثقافة ليس رفاهية، بل واجب وطني وإنساني" ، ومع اقتراب موعد الحكم في القضية، يبقى اسمه رمزًا للنضال من أجل الحفاظ على هذا الصرح الثقافي الذي كان جزءًا من حياته وروحه
كمال خليفة لم يكن فقط حارسًا لذاكرة الماضي، بل كان أيضًا مقاتلًا من أجل مستقبل الثقافة، وستظل دعواته للتضافر والتعاون نبراسًا لكل من يؤمن بقيمة الفن والإبداع في حياتنا.
أصبحت "ونسة الأحباب" ذكرى غالية في قلوب من حضروها و تحول المقهى في باب اللوق إلى جزء من ذاكرة ثقافية حية، حيث سيستمر أصدقاؤه ليحيوا روحه من خلال تلك اللقاءات، كان خليفة مؤمنًا بأن الثقافة ليست حكرًا على المؤسسات، بل يمكن أن تزدهر في أي مكان، حتى على طاولة مقهى بسيطة.
برحيله، نفتقد ليس فقط حارسًا لذاكرة الثقافة، بل أيضًا صانعًا للفرح الإبداعي، الذي استطاع أن يحول اللحظات اليومية إلى معالم ثقافية لا تُنسى.
لم يكن فقط فنانًا وإنسانًا راقيًا، بل أيقونة ثقافية كانت تسعى بكل إخلاص لنقل نور الماضي إلى الحاضر وسيبقى حاضرًا بيننا بأعماله، بروحه المحبة، وبالتاريخ الذي سعى دائمًا إلى حفظه وصونه، ليظل "أتيليه القاهرة" شاهدًا على عطاءاته.