القاهرة 19 نوفمبر 2024 الساعة 10:24 ص
حسن الحضري
تتناول رواية "الأقدام السوداء" للكاتب المصري محمد فايز حجازي، ثنايئة الحق والباطل وما يتفرع عليها بحسب اختلاف الأحداث والسِّياقات التي تجري في مسارها، وبالنظر إلى عنوان الرواية؛ نجد أن (الأقدام) جاءت للدلالة على القوة والرسوخ، وأيضًا للدلالة على الانتقال عبر الزمان والمكان، وأما الوصف بـ(السوداء) فجاء لتحديد نوع الدلالة؛ فقوة هذه الأقدام ورسوخها وانتقالها عبر الزمان والمكان؛ مخصوص بِفِعل الشَّر وصراعه ضد الخير.
ومن ذلك تتضح دلالة التذييل الذي لحق بالعنوان؛ وهو جملة (تقاطعات العشق والدَّجل)؛ فالعشق في هذه الرواية يرمز إلى الخير، والدَّجل يرمز إلى الشَّر، وقد تَمَّ توظيف الدلالات المذكورة، في جميع أجزاء هذه الرواية التي تدور في عدة أزمنة وأمكنة مختلفة، والكاتب محمد فايز حجازي يؤمن بأن ذوي الأقدام السوداء «سيهلكون، لكن ليس قبل أن ينتهي العالم»، ويؤكد ذلك في موضعٍ آخر فيقول: «إنهم موجودون في كل العصور، لقد أخبرني عنهم أبي كثيرًا».
وهذه الأقدام السوداء التي استمرت في جميع المراحل الزمانية والمكانية لأحداث الرواية؛ هي التي تمثَّلت في شخصية "دوف" الذي وضع العراقيل في طريق "إدوين" من أجل إفشال مشروعه النهضوي بالشركة التي يعملان بها معًا، وهي أيضًا التي تمثَّلت في القنصل الإنجليزي والفرنسي في الجانب الذي دار حول بعض الأحداث المصرية في هذه الرواية، وهي أيضًا التي قامت بفصل الموظفين الأربعة من العمل بشركة البترول في مصر مع كونهم نشطاء ومتقنين لأعمالهم، وهي التي دبَّرت المؤامرات في الجزائر من أجل إبعاد "مسيو خازم" الجزائري عن العمل، وهي كذلك التي عملت على ترهيب الجيولوجي إسلام ثم إنهاء تعاقده، وعودته من الجزائر إلى مصر؛ فهذه كلها نماذج للأقدام السوداء في جميع مراحل الرواية زمانًا ومكانًا.
وهذه الأقدام السوداء هي التي يصفها الكاتب بممارسة الدَّجل والمداهنة، وأنهم إذا فشلت أساليبهم التي تعتمد على إظهار القوة والعنف؛ فإنهم يلجؤون إلى المكر والخداع، وتأكيدًا لذلك يذكر الكاتب أسلوب "ريكي" فيصفه بأنه «يتكلم بلِينٍ بعدما أدرك أن النهج الذي يحاول اتِّباعه لن يجدي»، ومن مواقف الدجل الواضحة التي تمارسها الأقدام السوداء في هذه الرواية: ادِّعاء "ريكي" أنه يدعم قصة الحب التي نشأت بين المهندس حسن عبد الكريم وبين المتدربة داليا التي جاءت إليهم ضمن الوفد الطُّلَّابي من إحدى الجامعات الجزائرية، وكان "ريكي" يهدف من هذا الادِّعاء إلى استمالة المهندس والسيطرة عليه حتى يكون خاضعًا له في مجريات العمل.
وقد تضمنت هذه الرواية جزءًا كبيرًا دار حول حفر الآبار واستخراج البترول، والكاتب محمد فايز يعمل مهندسًا في شركات البترول، وقد أسقط من شخصيته الخاصة كثيرًا في هذه الرواية، فهو نفسه المهندس حسن عبد الكريم على صفحات روايته، وقد تكلم عن تجميع الزيت بوسيلة آمنةٍ واقتصاديةٍ، وذلك على لسان "إدوين" الذي يتكلم بثقة كبيرة وهو يقدِّم اقتراحاتِه إلى جهة العمل الذي تقدَّم ليَشغلَه، وهو الأمر الذي يكشف تفوُّق الكاتب في مهنته على أرض الواقع، وقد جاءت الرواية مشفوعة ببعض الخرائط والصور التوضيحية لعمليات الحفر واستخراج البترول، وتكلم الكاتب في هذا الجانب بإسهابٍ وتفصيل كاد يُدرج الرواية تحت تصنيف الروايات العلمية، لكن الجوانب الأخرى بها تداركت هذا الأمر وصنعت نوعًا من التوازن.
وقد كان للعنوان دوره في صنع هذا التوازن أيضًا، باعتبار السَّواد الذي وُصِفت به الأقدام هو سواد البترول، فتكون له دلالة جديدة تضاف إلى ما ذكرناه في بداية هذه الدراسة، إضافة إلى بعض العوامل المساعدة التي ساهمت في الحبكة الدرامية للرواية؛ مثل القصة التي ذكرها "مسيو خازم" للمهندس عن معلم اللغة العربية؛ الذي يحمل الاسم نفسه الذي يحمله المهندس، ويقيم في الحي نفسه؛ وكذلك قصة السائق "يزيد بن الزاوي" الذي ذهب لاستقبال المهندس مع أنَّ طبيعة عمله داخل الشركة تقتصر على قيادة الناقلات التي تحمل الوقود؛ ومن ذلك أيضًا ما ورد في الرواية من قَبِيل ذكريات الماضي؛ فهذه كلها عناصر ساهمت في بناء وتشكيل السياق العام للرواية وتقوية الحبكة الدرامية.
وفي إطار الجانب العلمي اهتم الكاتب بإبراز عدة نقاط نقدية؛ مثل: انتحال أعمال العلماء ونِسبتها بحسب الأهواء، استبعاد الأكْفاء والتخلص منهم، قيام بعض القيادات بِحَجب المعلومات عن العاملين معهم؛ وهذا أمر واقعي ويحدث كثيرًا ولا سيَّما حين يكون قادة العمل غير مؤهلين لمجال عملهم من حيث الخبرة والدراية، وفي حال كون القيادة أجنبية فإنَّ لها بجانب ذلك أهدافًا أخرى؛ في مقدمتها الرغبة في دوام السيطرة على العمل في البلاد التي يعملون بشركاتها، حتى إن القادة الأجانب في شركة البترول التي تعمل في الجزائر يتخوَّفون من معرفة الجزائريين أيَّة معلومات علمية مهمة تتعلق بالعمل، ويستغلُّون جهلهم بطبيعة العمل داخل الشركة التي تعمل في بلادهم وتستخرج النفط من أرضهم..
وفي ذلك يقول "جان بيِير": «إن الجزائريين ليس لديهم ما لدينا من معلومات تخص هذه المنطقة النائية، ولا يملكون ما نملكه من أبحاث وخرائط، لذلك أوهمناهم بأن البئر ستُحفر في اتجاه محدَّد، بزاوية ميلٍ محددة، وهذا بالطبع ما لن يحدث؛ لأننا سنسير في البئر في اتجاه مخالف وبزاوية مختلفة»، وفي هذا السياق يقول "ريكي": «إن العمال الجزائريين في الحفَّارة شأنهم شأن كل العمال في كل حفارات العالم؛ ليسوا سوى منفِّذين، لا يَعُون شيئًا من الأمور الهندسية، تمامًا كالعمال في مجال الإنشاءات؛ الذين يحملون مواد البناء وهم لا يفهمون شيئًا عن التصميم الهندسي، أما عن المتخصصين الذين سيعملون على الحفَّارة فكلهم من جنسياتنا».
ومن اللمحات النقدية التي جاءت في هذا السياق اهتمام القادة الأجانب في الشركة بالاقتصار على استخدام لغتهم، وترجع أهمية هذه اللمحة النقدية التي وردت في الرواية؛ إلى كونها واقعًا ملموسًا على أرض الواقع؛ فإن اللغة لها أهميتها المشهودة في التقدم الحضاري والتطور والتفوق على الآخر، ولذلك نجد دول الغَرْب يهتمون بلغاتهم اهتمامًا بالغًا، وقد عملوا على نشرها في البلدان التي احتلوها، وما زالوا يعملون على فرضها لغةً رئيسَةً في بعض العلوم والمعارف.
وفي سياق الإسقاطات النفسية التي سبق ذِكرها يَبرز الجانب الدِّيني بوضوح من بداية الرواية؛ فإن "إدوين" الذي يمثل جانب الخير متدين هو وزوجته، أما مدير الشركة "جورج" فينسب النجاح إلى الأسباب وليس إلى توفيق الله؛ فقد قال مخاطبًا "إدوين": «آليات النجاح المؤكد: الذكاء المتمثل في العقل، والقوة المتمثلة في المال، والسلاح المتمثل في العلم والمعدَّات»، ومن ملامح الجانب الديني التي جاءت في إطار الإسقاطات الشخصية للكاتب: جلوس المهندس حسن عبد الكريم بين مسجدي الرفاعي والسلطان حسن، وكذلك: الحديث المتخيًّل بين المساجد والمآذن، وأيضًا قول المهندس: «لن أستطيع وحدي، بالله وحده أستطيع»؛ وكذلك كلامه عن الأذان، والدعاء بعده.
وتناولت الرواية بعض الملامح التاريخية، ومنها ما يتعلق بمصر؛ كالتدبير الذي تمَّ للتخلص من أحمد عرابي، والتدبير لبعض الأحداث التي سبَّبت الفوضى الداخلية، وفي هذا الجانب يذكر الكاتب النتائج، ثم يكشف الأسباب والمقدمات، في سياق الأحداث التي يقوم بتوظيفها، معبِّرًا في ذلك عن رؤيته الخاصة واستنتاجاته، وفق الخطوط العريضة التي يذكرها التاريخ، كما تناول الكاتب في هذا الجانب التاريخي أزمة مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر وما أعقبها من تداعيات، وقد كان لهذا الجانب التاريخي دوره في دعم مسار أحداث الرواية عبر مراحلها وتنقٌّلاتها زمانًا ومكانًا.
أما تقاطعات العشق والدَّجل، التي استمرت في جميع مراحل هذه الرواية؛ فقد انتهت بانتصار العشق، وزواج المهندس من حبيبته، وإنجاب ابنهما الذي بلغ منتصف العشرينات في نهاية الرواية، وذلك في مرحلة زمنية تخطَّت وقت كتابتها؛ حيث سافر المهندس إلى الجزائر والتقى مع داليا الجزائرية سنة 2013م، وبالتالي فإن أحداث الرواية انتهت في مرحلة زمنية تقترب من سنة 2040م، بينما نُشِرت هذه الرواية سنة 2023م.
|