القاهرة 13 نوفمبر 2024 الساعة 11:00 ص
بقلم: أحمد محمد صلاح
الفلسفة في رأي أفلاطون ضربٌ من الرؤية، رؤية الحقيقة؛ فهي ليست بالعقلية الخالصة، وليست هي مجرد الحكمة، لكنها حب الحكمة، الذي يسميه اسبينوزا «حبًّا عقليًّا لله»، هو نفسه الاتحاد الوثيق بين الفكر والوجدان، هكذا يكتب برتراند راسل عن رأي أفلاطون في الفلسفة ككل، ويقول أيضا أن الفلسفة هي حالة عقلية تتبدى فيها الحقيقة أو الجمال بعد جهد طويل، سواء كان الفيلسوف يعالج موضوعا تافها أو موضوعا كونيا.
تلك الحالة العقلية تجعل الفيلسوف في حالة اقتناع تام بما يصل إليه من نتائج، وقد يصل إلى حالة من الشك فيما بعد، ولكن وكما يقول راسل "في تلك اللحظة ذاتها يبلغ الغاية القصوى من درجات اليقين"، وأغلب ظني أن الكثرة الغالبة من خيرة الآيات التي تدل على إبداع إصحابها في الفن، والعلم، والأدب، والفلسفة، كانت نتيجة لمثل هذه الحالة التي ذكرناها.
وقد يكون التشبيه الأقرب لتلك الحالة الوجدانية، ما يمر به الكاتب وهو بصدد تأليف كتاب أو رواية، أو الفنان وهو يجهز للوحة أو منحوته، فنجد الشخص منغمس في تفصيلات العمل، يتملك عليه كل جوارحه، تتداعى عليه الأفكار فرادى وجماعات، يسير وهو هائم فيما يكتب أو يبدع، حتى تستولي عليه الفكرة تماما، ثم تنضج كعجينة الخبز، وهنا يبدأ في إدراك كل الفكرة دفعة واحدة بكل أجزائها، بكل معاناتها خلال أسابيع أو أشهر، ثم يبدأ في الكتابة أو الرسم أو النحت.
ويشبهها راسل: "وأقرب تشبيه لهذه الحالة هو أن أقول إنني أبدأ بالسير في كل أرجاء الجبل وهو مغمور في الضباب، حتى آلف كل شعبة فيه وكل حافة أو وادٍ، آلف هذه الأشياء كلٌّ على حدة، ثم أبعد عن الجبل فأراه كلًّا واحدًا، وهو واضح المعالم في ضوء الشمس".
ثم يطرح أفلاطون قضية مهمة وهي التمييز بين عالم العقل وعالم الحواس، فهو يقسم العقل إلى "العقل الخالص" و"قوة الفهم"، فأما العقل الخالص فهو أعلى النوعين، وما يعنيه هو الأفكار الخالصة، وطريقته هي الديالكتيك (الجدل)، وأما «قوة الفهم» فهي نوع العقل الذي نستخدمه في الرياضة، وهو أقل منزلةً من العقل الخالص لكونه يفرض فروضًا لا يستطيع اختبار صدقها؛ ففي الهندسة مثلًا ترانا نقول: «افرض أن أ ب ج مثلثٌ محوط بخطوطٍ مستقيمة»، وأنت تجاوز القواعد الرياضية، لو سألت: هل حقيقة أن أ ب ج مثلثٌ محوط بخطوطٍ مستقيمة؟ على الرغم من أننا قد نكون على يقينٍ من أن الشكل الذي رسمناه ليس يحمل هذا الوصف الذي ذكرناه؛ وذلك لأنه يستحيل علينا أن نرسم خطوطًا مستقيمة استقامةً مطلقة، وبناءً على ذلك فيستحيل على الرياضة أن تنبئنا بما هو كائن، وكل ما تنبئنا به هو ما عسى أن يكون لو … إن العالم المحسوس لا يشتمل على خطوطٍ مستقيمة، وعلى ذلك فلو أرادت الرياضة أن تظفر بما هو أكثر من الحقيقة الفرضية، فلا بُدَّ لنا أن نلتمس الدليل على وجود خطوط مستقيمة أعلى مما يقع تحت الحس، في عالمٍ أسمى من العالم المحس، وليس في وسع «قوة الفهم» أن تلتمس هذا الدليل، الذي يستطيع ذلك -في رأي أفلاطون- هو العقل الخالص، الذي يدلنا على أن هنالك في العالم الأعلى مثلثًا محوطًا بخطوطٍ مستقيمة، وهناك في هذا العالم نثبت القضايا الهندسية إثباتًا يقوم على تقرير الواقع الفعلي، لا على افتراض ما ليس بموجود.
ويوضع برتراند راسل مقصد افلاطون فيقول: "يحاول أفلاطون أن يوضِّح الفرق بين الرؤية العقلية الواضحة، وبين رؤية الإدراك الحسي المهوشة، بمثالٍ يسوقه من حاسة البصر، فهو يقول إن البصر يختلف عن سائر الحواس في أنه لا تكفيه العين والمرئي وحدهما، بل لا بُدَّ له من الضوء أيضًا؛ فنحن نرى الأشياء التي تسطع عليها الشمس رؤية واضحة، وأما ساعة الغروب فتضطرب الرؤية، وفي الظلام الحالك لا نرى شيئًا على الإطلاق؛ فعالم المُثل هو ما نراه حين تكون الشمس ساطعة بضوئها على المرئي، أما عالم الأشياء العابرة فعالمٌ مضطرب كالذي نراه ساعة الغروب؛ فالعين هنا شبيهة بالروح، والشمس -باعتبارها مصدر الضوء- شبيهة بالحقيقة أو الخير".
|