القاهرة 12 نوفمبر 2024 الساعة 11:56 ص
بقلم: د. هبة الهواري
إن تناول شخصية الفنان أحمد فؤاد سليم (1936- 2009 )وأعماله الإبداعية بالدراسةوالتحليل لهو مهمة غاية في الصعوبة،وتجربة غاية في الثراءوالقيمة؛ فقد كان شخصية متعددة الجوانبوالأعماق،وكان وما زال أحد أهم أعضاء الحركة التشكيليةوالثقافية المصرية المتفردين؛ راعيا ومؤسسا لمراكز التنويرالثقافي،وكاتباً صحفيا وناقداتشكيليا،ًوموجهاً لشباب الفنانينومسرحياًوشاعراًومصوراً،ومنظماً ومديراً للعديد من الفعاليات الثقافية التشكيلية،ونقابياً،حيث تألقت تلك الشخصية في خضم الحياة الثقافية المصرية منذوقت مبكر،وظل عنصراً حياً نابضاً يتجدد في كل موقف يضخ فيه روحه الوثابة.
كما نقرأ من كتاباته: "علمني الزمن أن الصورةوالكلمة، هما خلاصي من هذا العالم"[1]وتتردد في مسميات لوحاته تلك الأفكار الخاصة بالسعي نحو التحرروالخلاص من قيد الجسد والطيرانوالتوق الأبدي إلى مصدر النور.
من خلال اختيار الفنان أحمد فؤاد سليم للعناصر الشكليةفي مسطحهولطبيعة العلاقات بينها، في استخدام الموتيفةMotifالأيقونيةللحرف العربي والموضوع المتكرر Theme كما في عمليات التفكير عند التأليف الموسيقي،ومع النمو التدريجي للصورة أمام عيني المتلقي فإننا نتلقى تداعيات من الأفكار نراها وهيتتسلسل بالتدريج إلى عقل المبدع أثناء صياغة تلك العناصروعقولناأثناء صوغوقراءة الدلالات، حيث نلاحظ في خضم التلقي لهذا العزف الممتزج من الوحدات المكونة للمشربيات العربية الشهيرة،وتلك الرقاقات المتساقطة من اللاوعيتموج في بعضها البعضوتخفي جذورها الشرقية حيناً وتبديها في أونرىمفروكاتوأطباق نجميةوقدتشظتوتفككت،تفجرت واستحالت أجنحة تسعى نحو تمثلات من الخشب المخروط، أكد سليم على حضورها المجسد الملون بالظلوالنور الصبغة المشرقة بألوان ساخنة.
تتجلىهذه العملية في لوحته المسماة "حروف معلقة"(من مجموعة تشخيص من عنصر الكاليجراف)و هي زيت على توال 125 سم × 125 سمو قد نفذها في عام 1987 .[2]حيث الوجود الرابض يقترب صاعدا ويفيض نحو المجسمات المقلوبة التي علقها سليم في سماء لوحتهوباعد بين النسبوالتناغمات الطولية لها حتى ظنناها تساقط من علٍ في شجوونبض تشكيل الملمس التصويري لديه هنا يصنع تنغيماً صاخباً مواراً وحركة نشطة نحو الأعلى كأن هذه الهندسيات المتفجرة تهفو للتحليق بين رقص وسكون. ولا يمكننا تأويل النص التشكيلي لدى أحمد فؤاد سليم هنا بإسقاطوجهة نظر محددة ضيقة عليه، بل هو ينفلت من كل الأطروالتفسيرات .
على الرغم من أن أحمد فؤاد سليم يأتي لنا بمفردات تراثية شرقية و هيئات تكمن في لاوعينا الجمعي كذلك الضوء البرتقالي الآتي من حيث دير الراهبات الفرانسيسكان ذلك المكان الذيوصفه سليموكان يحن إلى الرجوع إليه على الدوام حيث السبع بنات المقدسات المنيرات يعالجن الأمهات ويحنون على الصغار ويحبون الصغير "أحمد"ويوصين الأم حين تأتي في المرة القادمة أن تحضره كي يهدينه الحلوىوالحب،نرى ذلك اللون البرتقالي المؤطر بالسواد القادم من عمق الدير المرتفع سبع درجات الذي كان يعود كل يوم يحكي عنولعه به، ذلك اللون العميق.
يتردد ذلك الحنين المقيم في لوحته "أغنية عربية"وهي زيت على توالوأبعادها، 136 سم × 136 سمو التي نفذها في عام 1978، يقتطف سليم فيض الحروف العربية الممتد في خضرة غنية تتلقاه زرقة سماوية ناعمة تنتقل إلى ملمس الخطوط المستقيمة الحادة يكسر بها حدود ترقرق التكوين الزاحف من يمين اللوحة نحو العمق، تلك الانتفاخات المعمارية تتسع كأجساد القبابوتضيق كأعناق المآذن هي تشكيلات سليم في المطلق وهي تنتمي لذهن الفنانوحده فليس في اللوحة أي حضور إلا حضور اللوحة نفسها.
ففي العمل الذي تم عرضه في معرضه الاستعادي، وهو نسخة مطبوعة علىورق يلصق على كارتون نرى تلك الأنساق المتداخلة المتفاعلة حيث يتم تشكيلها وصياغتها فيشبكة من العلاقات المنسجمة من حيث الترابط بين المعنىوماوراء المعنى، وبينالتراكيب وطرق صياغتها بين العناصر العضوية التي تشبه التركيب الطبيعي للجسد البشري.ولقد استقى سليم نسقه التشكيلي العضوي من موارد متعددةومتباعدةولا يمكننا تصور امتزاجها في نسيجواحد إلا بعد تعرضها لفعل الذات المبدعة.
ويتخذ أحمد فؤاد سليم منهجاً تركيبياً في عمليات التجريدوالتكوين للمفاهيم التي ينشغل بها،ويبدو لنا بناء السطح التصويري لديه سلسلة طويلةوعميقة من المراحل المتتالية التي تفصح بطبقاتها الغنية عن وعي حادوحس مرهف وموهبة فذة وامتلاك لناصية التشكيل للتعبير البليغ عن ثراء المحتوى الثقافي لروحه المتوقدة.
وفي لوحته "الحلم الليلي لهاملت"وهي منفذة بأسلوب الكولاج وألوان زيتيةوأكريليكوألوان سيراميك على الباردوقماش أورجانزا على توال،يلجأالمبدع خلال محاولته لتنظيم مدركاته عن فكرة الشبح الذي يجوب القلعة في جوف الليلويوقظ العقل، ذلك الفارس الذي يتسربل بدروع الحربويصرخ طالباً ثأر الشروفوانتقام الأمير،حيث يبدو لنا وقد اتخذ جسدهوضعالحركةوامتدت يداه إلى الأمام كمن يسري في الظلمات يطلب الهدى،ولقد قام سليم بتركيب طبقاته التصويرية بترتيب جمالي يحسن حل المساحة ويفتت جمود هندسيتها بجسد الشبح البرتقالي المضمخ بالسواد الذي يتحرك نحو اليسار في مساحة بيضاء شبه دائرية،شابتها أطياف من ألوان أخرى لها حضور في المسطح التصويري يلتقي منحنى الدائرة بترديد له بعد قدر رهيف من الصمت المظلم في تشكيل من الخامات المتضافرة لإثراء السطح وكأنه هيئة لجسد امرأة، وقطعه سليم بشق أفقي لين من عنصر عضوي الجذور يسري نحو الجانب الأسود على يمين اللوحةويمضي شبحه الحائر نحو امتداد لمساحة خضراء ترتمي في مداها ظلال أشجار الغابات تحاصر القلق الليلي وتتنوع في السمك والطول تردد نغمة حركية،يأتي عند التقاء جسد الشبح بتلك الأشجار ويفتح طريقاً في بناء المسطح الأخضر المشبع بمنمنمات واعتمالات غرائبية شتوية تذكرنا بالطقس الأوروبي الذي طالما كان يحكي عنه في مذكراته ويشبه طقس بلدته دمياط به [3].
كما يتضح في اقتصاد عدد الحركاتوالخطوط التي يلجأ إليها للإفصاح عنولع عازفة العود بالنغمات ومدى احتضانها لآلتها بكامل جسدها الناطق بالاحتواء الخلاق وترديد منحنيات آلة العود لثنيات جسدها الأخضر الخصيب وتماهي خصلات شعرها مع أوتار العود في تحريك أفقي شجي لمركز الثقل ونقله عبر ساقيها المنفرجتينوالقاعدة البيضاوية تقويس الذراعين في انغماس واستغراق مطلق يبدو لنا في انحناءة الجسد العاري في قلبوهج برتقالي نشط يتزن ببقعة خضراء تستمد روحها من لون جسد تلك العازفة في استمراريةوتجدد موسيقي لترديداتالأقواسوالمنحنيات يمنة ويسرةوهو يكتب مقولته "ليس هذا نهاية فعلي،ولا هو بداية فعلي،بل أعرضه لأنحيه،وأبدأ من جديد".
[1]كتيب معرض " سليم " الاستعادي الذي أقيم بمركز الجزيرة للفنون،القاهرة، 2008
[2] مطبوعة معرض الفنان :" تحولات سليم "،متحف الشارقة للفنون،الشويهين، 1996
[3]أحمد فؤاد سليم : خواطرو ذكريات من الكتاب التذكاري الذي صدر بعدوفاة الفنان،وزراة الثقافة،قطاع الفنون التشكيلية،متحف الفن الحديث،القاهرة،2009
|