القاهرة 05 نوفمبر 2024 الساعة 10:25 ص
تقرير: مصطفى علي عمار
بعد إعلان نتائج مسابقة اتحاد كتاب مصر الأدبية، أجرينا حوارا مع أحد الفائزين بالجائزة وتحديدا في مجال الشعر، مع الشاعر الطبيب عيد صالح، الذي شارف على الثمانين من عمره، وكان فوزه بجائزة التميز في الشعر عن ديوانه "خذ مكانك الأثير"، الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب وعدد صفحاته 145 صفحة..
التقينا به وسألناه عن شعوره بالجائزة في هذا العمر؟
- شعوري بالفوز أن تصل متأخرا خير من ألا تصل، وأشكر كل من وقف بجانب شخصي المهموم بما هو أبعد من الجوائز مع أهميتها بقضايا الوطن، والأمة المحاصرة ومحرقة الشعب الفلسطيني بالتدمير والإبادة، كيف ننام مع تكالب العالم وصمته وصمتنا العاجز المهين..
وعن الديوان ومدى شاعريته قال عيد:
- أترك الحديث للقارئ المجهول الذي أعول عليه، لا ذلك المتحذلق المتأفف المترصد الذي يضع النص علي مائدة التشريح والتقطيع والتشفية
-
د. نادر عبد الخالق: قصيدة النثر احتلت تفكير عيد صالح بحثا عن الحرية..
ثم كان لقاؤنا مع الناقد الأدبي د. نادر عبد الخالق الذي أكد على مصداقية هذه الجوائز ونزاهتها، وأحقية كل من حصل عليها في الفروع كافة، وأن جائزة التميز في الشعر نالها د. عيد صالح وهو يستحق، وأشاد به قائلا:
- يُلاحظ أن كتابات الدكتور عيد صالح كانت مشفوعة بنمط حياته العلمية وثورة الواقع ضد تقاليد الحياة القديمة قبل ثورة 1952، ولم يستطع أن يخفي توجهه السياسي، الذى بدا واضحا في مرحلة الجامعة، فهناك تلقفته ثقافات جديدة وغريبة عليه، لكنه استطاع أن يكتشف ميوله وأهدافه فكان اليسار سببا في التعرف على ملامح الحياة الجديدة، وعينا يرى بها الواقع الجديد، وظل هكذا مخلصا لأفكاره وطريقته فى الحياة، حتى تشكلت تجربته، وبدأت طموحاته تتشكل فى ظل هذا الزخم السياسي، الذى عكس الطموح المصري والعربي، وحمل في طياته عالما جديدا جميلا وحلما كبيرا..
ولو تأملنا سيرته الإبداعية لوجدنا محطات كتابية مختلفة، فقد بدأ كما ذكر في سيرته الذاتية يكتب القصة، وفاز في مسابقات الأزهر 1965 عن قصة "نهلة"، وكان ذلك بصفته الجديدة يساريا قوميا مفتونا بالواقعية الاشتراكية، وبحتمية الحل الاشتراكي ومشفوعا بانتصار اليسار العالمي، وبدأ النشر في مجلة " الأدب" لأمين الخولي عام 1965 بقصيدة " ذئاب البشرية"، وواصل النشر في مجلة "سنابل" لعفيفي مطر عامي 1968، و1969، بقصائد تفعيلية مسايرة للجو التعبيري أنداك، منها قصيدة "لا تحزني إذا سقطت قبل موعد الوصول".
ثم كتب رواية "غريب" في عامى1967و 1968، وهى ما زالت مخطوطة كما ذكر، كما نشر قصتان في مجلة "رواد" عام 1990، بعنوان "نزيف" و"حمى".
نستشف مما سبق أن ثمة اضطراب يصحبه تمرد ظاهر في شخصية الدكتور عيد صالح، وقد يفسره البعض بتمرد سلبي أو ضجر من الحياة، لكنه اضطراب يعكس اضطراب الحياة آنذاك، وتمرد بحثا عن الحقيقة، وتحديد مواقف ذاتية تساعد فى تحديد نمط حياته، فهي حياة عارمة وسيرة مضطربة لقروي أزهري تمرد على الزى الأزهري"، واختار لنفسه الدراسة العلمية الدقيقة، ليهرب من العفاريت والمشايخ، ليدخل كلية الطب ومنها يتعرف علي اليسار الوجودي العربي والبعثيين الدارسين بالقاهرة، شأنه في ذلك شأن أبناء الجيل وامتثالا لتيارات الحياة السياسية المتصارعة آنذاك.
وكان لا بد أن تنعكس هذه الأفكار وتأثيراتها على تكوينه وعلى ما يقدمه ويطرحه من فكر، رافض لما هو كائن وموجود، أو مؤيد حالم لما سيأتي في المستقبل، فكانت الكتابة المقطعة ذات الوحدة النصية الواحدة، المتعددة الأجناس، كمحاولات للتجريب والاستقرار على منهج وأيدلوجية تقتنص لحظة الإبداع، وتلك الكتابة تقوم على التأثير وعلى حشد الفكرة بالعديد من التأويلات الرمزية، فضلا عن أنها سمة غالبة عند شعراء الجيل في ذلك الوقت، وهى رؤية ينطلق منها الشعراء محاكاة للتيارات الغربية السائدة في ذلك الوقت، فكانت وجهته منهجية بحثا عن المذهب وتماشيا مع سمة العصر، حيث استقر التعبير في دلالات الصورة، وفى التأويل الرمزي
وقد ذكر الدكتور عيد ما يؤيد ذلك فقال : "مفتون أنا بالصورة، لا بجمالها وظلالها وألوانها، ولكن لأنها جمال الشعر وفتنة القصيدة، لأنها التجسيد الحي لما يتجلى لحظة الكتابة، الصورة هي الوعاء والثوب والجسد معا، هي الأعضاء المتحركة في ديناميكية النص الجميل الساحر الغامض، وربما كنت من أوائل الذين كتبوا المشهدي واليومي والسردي، ولكن بعدنا عن منافذ النشر وعزوفنا عنه وإقليميتنا، كل ذلك ألقى بنا في سلة الإهمال والنسيان، ليس بكاء ولا ادعاء وليس وقت النفي والإثبات للسبق والتأصيل، ورغم أن كل شيء طالته آلة الدمار والعبث فمع ذلك لا خوف علي القصيدة، ولا حدود للكتابة، لا تخوم، لا فواصل أو أقواس، حتى لو كانت أقواس قزح، أو أطياف بورخيس، أو مدن أكتافيو باث، أو لآلئ شيركو بيكه سي، أو عواء ألن جنسبيرج".
وتمثل قصيدة د. عيد صالح "مُكابدات" صورة من ذاته وصورة أخرى من بحثه ورؤيته وحيرته، وتعكس طريقته في الكتابة واختيار منهجية التصوير، كدلالة تعبيرية تؤكد اتجاهه وتجربته في البوح والشوق يقول :
قلت : أعيد بنائي
أدخل ذاتي وأجدد محرقتي
مبخرتي .. أدواتي ودواتي
وحروف هجائي
ألواني .. جدراني
وطلائي !!
أخلع طوقي أرفع مطرقتي
وأدق الحجر الناتئ .. والزائد
والنافر .. أحفر .. أحفر
حتى ينبثق الضوء / الماء / الدم
أعجن صلصالي .. بالحبر القاني
وأضمخ ريشتي المستنفرة
أروض أجنحتي الهاربة
أحط بها في الوجدان المنهار
واصطف .. وألتف
أدور .. أدور
( كالما تادور ) ..
والمتأمل في نسيج النص يلاحظ مراحل الصعود والتكوين الفكري ودلالات التعبير، وكلها مراحل تؤكد تتابع الرحلة الكتابية، وتوالى التأثيرات وكيفية تلقى الشاعر لها، وهذا وحده يكفى للتدليل على صدق التأويل ومراودة النص منذ بدايته.
ولم يكن التنوع المعرفي والبحث عن الجديد في الإبداع ناتجا عن فراغ فى تجربة الدكتور عيد، فنظرته للفنون وتطلعه للشكل الفني جعله يؤمن باتحاد الفن ووظيفته وأهدافه، وقد عبر عن ذلك قائلا: "أومن بوحدة الفنون التي تداخلت واندمجت بانشطارات الحداثة وما بعدها حد الإلغاء النوعي، وصولا للكتابة المنطلقة المنعتقة التي لا تحدها أجناس ولا يحمي شواطئها كهان أو حراس، فقط على المبدع أن يفتح سراديبه وأعطافه وخوابيه، لتنطلق الملائكة والشياطين، والأطفال والشيوخ، والهواجس، والأغنيات، والصراخ، والشبق، والأنين، والأحجيات واللوغاريتمات، والثورات، وقطارات الموت والحياة، الأمطار، الزلازل، والفيضانات".
وكان ذلك سببا لاندفاع الشاعر نحو عدة أشكال فنية، بدأها بالقصة والشعر الحر، وانتهى بقصيدة النثر التي احتلت تفكيره واستحوذت على كتاباته، ربما بحثا عن الحرية التي تسيطر على تفكيره منذ الصغر، وربما تحقيقا لرغبة خاصة وتأكيدا للهدف الإبداعي الذى يتجاوز القالب والشكل الفني من وجهة نظره.
-
سمير الفيل: نبض السرد واضح في قصائد عيد صالح..
ويتفق القاص القدير سمير الفيل مع رأي دكتور نادر قائلا: اثمن فوز الشاعر عيد صالح بجائزة اتحاد كتاب مصر الأخيرة، فهو شاعر حقيقي قادر على أن يكتب في ظروف قاسية رغم اقترابه من سن الثمانين، لكن هو كاتب له عطاء غزير ليس فقط من خلال القصيدة، لكن من خلال الحركة والمشاركة في أغلب الأنشطة الثقافية في محافظة دمياط وغيرها من المحافظات.حيث ينتمي د. عيد لقرية الشبون وهي قرية ساحلية، ودائما ما يمتاز أبناء الساحل بالعطاء وانفتاحهم على الآخرين، ولدكتور عيد دواوين شعرية ذات قيمة عالية، كما أن له أيضا عين نقدية راصدة، وأتصور أن حصوله على جائزة التميز باتحاد الكتاب هي نتيجة هذا العطاء الغزير غير منقطع، بالإضافة إلى قيمته ومواقفه الوطنية في أغلب منعطفات السياسة في مصر.
وعندما أصدر ديوان "ماذا فعلت بنا يا مارك"، أشار من خلاله لاقتحام التكنولوجيا لحياتنا وإنها كان لها جوانب سلبية، كما تتميز قصائده بأن لها أفق بعيد ومخيلة جانحة، وتشكيل لغوي محكم، ورغم كونه شاعرا إلا أننا نجد في قصائده نبض السرد واضح جدا، خاصة في الحكايات والأقاصيص وفكرة المفارقة في العمل الأدبي، وأعتقد أن هذه الجائزة تكريم بسيط لبعض مما أعطى، وهو يستحقها بجدارة.
|