القاهرة 30 اكتوبر 2024 الساعة 12:12 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
يقول أفلاطون في كتابة الجمهورية: "إن المدن لن تخلص من هذه الشرور، كلا، بل أعتقد أن الجنس البشري كله لن يخلص منها، حتى يتلاقى الفلاسفة والملوك، أو يكتسب ملوك هذا العالم وأمراؤه روح الفلسفة وقوتها مع عظمة السياسة وحكمتها، لن يخلص العالم من شروره إلا إذا وقفت هاتان الطبقتان إحداهما إلى جانب الأخرى، بدل أن تسعى كلٌّ منهما لمحو الأخرى، عندئذٍ فقط يمكن لدولتنا هذه أن تعيش وأن تشهد ضوء النهار".
كما ذكرنا من قبل أن أفلاطون كان يري أن الحاكم لا بد أن يكون فيلسوفا أو العكس، ولا بد أن يحدث نوع من التكامل بين الاثنين في شخص واحد، ولكنه على ما يبدو وجد أن الأمور لن تصلح بسبب السياسة، فكان أن كتب ما ذكرناه على لسانه، ويتمني أن تقف الطبقتان -طبقة الفلاسفة وطبقة الحكام- بجوار بعضهما البعض ليخلصا العالم من شروره.
وتقوم فلسفة أفلاطون على التمييز بين الحقيقة والظاهر، ويعتبر بارمنيدس أول من تكلم في هذه النقطة الفلسفية، ثم صاغها أفلاطون في محاوراته، ولكنه مزج بينها وبين أجزاء من فلسفة فيثاغورس وأنتج مذهبا وجد أنه يرضي العقل والعاطفة الدينية على السواء.
ويعدد أفلاطون مزايا الفيلسوف، فيترجم برتراند راسل ما كتبه أفلاطون فيقول: "من هو الفيلسوف؟ الجواب الأول هو في الأصل الذي اشتُقَّت منه الكلمة، فالفيلسوف هو محب الحكمة، ولكن محب الحكمة ليس هو محب المعرفة، بالمعنى الذي يمكن أن تقصده حين تقول عن المطلع أنه يحب المعرفة؛ ذلك لأن الاستطلاع المبتذل لا يخلق فيلسوفًا، وعلى هذا فالتعريف يُصحَّح على الوجه الآتي: الفيلسوف هو رجل يحب «رؤية الحقيقة»، ولكن ما هذه الرؤية؟
فكِّر في رجلٍ يحب الأشياء الجميلة، رجل يهتم بحضور المآسي عند أول تمثيلها، وبرؤية الصور الجديدة، وبالاستماع إلى الموسيقى الجديدة، مثل هذا الرجل ليس بالفيلسوف؛ لأنه لا يحب إلا الأشياء الجميلة وحدها، أما الفيلسوف فيحب الجمال ذاته، إن الرجل الذي يحب الأشياء الجميلة وحدها رجل يحلم، على حين يكون الرجل الذي يعرف الجمال المطلق يقظانًا غاية اليقظة؛ الأول لا يكون لديه إلا رأي، أما الثاني فتكون لديه معرفة".
ويستطرد أفلاطون: "فما الفرق بين «المعرفة» و«الرأي»؟ إن من تكون لديه معرفة تكون لديه معرفة ب «شيءٍ ما»، أعني لديه معرفة بشيءٍ موجود؛ لأن ما ليس بموجودٍ هو عدم (وهكذا يُذكرنا ببارمنيدس)، وعلى ذلك تكون المعرفة غير قابلة للخطأ؛ إذ إنه من المستحيل عليها منطقيًّا أن تخطئ، أما الرأي فعُرضة للخطأ، وكيف يقع مثل هذا الخطأ؟ إن الرأي لا يمكن أن يكون عن شيءٍ لا وجود له؛ إذ إن ذلك مستحيل، ولا أن يكون عن شيءٍ موجود؛ لأن ذلك عندئذٍ يكون معرفة، وإذن فالرأي يكون عما هو موجود وغير موجود في آنٍ معًا".
من هنا كانت نظرية افلاطون التي صيغت بعد ذلك بأكثر من كيفية لأكثر من فيلسوف، ويأخذ بها في الكثير من المناحي مثل الموسيقي والفنون المختلفة، فالأشياء الجزئية تتصف دائما بأنها متضادة، والجميل قد يكون قبيحا في بعض مناحيه، أي أن أي موضوع يصلح لأن يكون مادة للمعرفة وأيضا للرأي، ولكن.. هناك من يشهدون المطلق والأزلي وأيضا المعلومة، فهؤلاء من يمتلكون المعرفة، بل المعرفة الحقة.
على أن أفلاطون كما يقول برتراند راسل قد ابتدع مذهب "المثل" أو "الصور" وهي نظرية منطقية في بعضها، ميتافيزيقية في بعضها الآخر، فيقول أفلاطون أنك كثيرا ما ترى اشخاصًا عدة يشتركون في الاسم نفسه، ولكن كل فرد منهم مختلف، فمثلا هناك أسرَّةً كثيرة، فهنالك «مثال» واحد للسرير، أو «صورة» واحدة له، وكما أن انعكاس السرير في المرآة مظهر فقط، وليس ب«الحقيقي»، فكذلك الأسرَّة الجزئية الكثيرة ليست حقيقية؛ إذ هي ليست سوى نُسخ من «المثال» الذي هو السرير الحقيقي الوحيد، وإدراكك لهذا السرير الواحد هو ما يُسمى بالمعرفة، أما إدراكك للأسرَّة الكثيرة التي صنعها النجَّارون فهو مجرد «رأي»، والفيلسوف -باعتباره فيلسوفًا- لا يعنيه إلا السرير الواحد المثالي، دون الأسرَّة الكثيرة التي يصادفها في العالم المحسوس؛ ذلك لأنه لا يأبه بشئؤون هذه الدنيا العادية: «فكيف يمكن لذي العقل السامي الذي يشهد الزمان كله والوجود كله أن يطيل التفكير في الحياة البشرية؟» وإن الشاب الذي في مُكْنته أن يصير فيلسوفًا سيَمتاز عن سائر لداته بوصفه عادلًا ورقيقًا، محبًّا للعلم، قويَّ الذاكرة ذا عقل متزن بطبيعته، مثل هذا الشاب لا بُدَّ من تنشئته على نحوٍ يجعل منه فيلسوفًا وحارسًا (= حاكمًا).
|