القاهرة 29 اكتوبر 2024 الساعة 10:52 ص
بقلم: د هبة الهواري
قدم الفنان السوداني محجوب حسن لوحتين في أعمال ملتقى الأقصر الدولي لفن التصوير، تعبران عن أسلوبه الفني المتميز في التصوير فاستطاع في أولاهما اقتناص لمحة زمنية خاطفة، مشهدٌ من حياة مدينة الأقصر اليومية ربما مشهد من نافذة القطار أو السيارة، هذا الانفلات الجامح نحو الفوت، واستلاب الروح قبل اكتمال المعنى، نموذج لعمليات مركبة من فن الالتقاط الدال كما يقول علماء النفس، حيث نراه وقد صور كتلة من مجموعة من الرجال يرتدون الجلباب الصعيدي والعمامة ويندفعون إلى الأمام في هيئات مقوسة الظهور وممتدة إلى الأمام بشكل مدهش وكأنما هم تحت وقع قوة ما تقمعهم وتدفعهم إلى هذا الهروب الكبير، تلك اللهفة الغامرة للحاق بما ينفلت من بين أيدينا، تلك اللحظة المفارقة الشجية التي تخطف القلوب.
هذه الكتلة المكونة من ستة أجساد مندفعة إلى الأمام تبدو كأنها تستقل عربة ذات حصان (الحنطور) الذي ينتشر في طرقات الأقصر وشوارعها، أحدهم يستقل ما يشبه الدراجة البخارية، تختلط كتلة الدراجة بالحنطور بالحصان الجامح في قلب الكتلة والذي يتطوح شعره إلى الخلف بقوة توحي بالاندفاع إلى الأمام، كذلك حركة الدوران للعجلتين الظاهرتين والمعالجة اللونية بالإزالة والتفتيح في بعض المواضع لطبقات المعجون التأسيسي وألوان الأكريليك وصغر مساحة العجلة الأمامية زاد من إحساسنا بالسرعة والاندفاع الخاطف، تتناثر بعض الحروفيات والرموز في أنحاء المسطح التصويري، وهناك وحدة تكونت نتيجةً للتكرار الذي تعمده الفنان محجوب حسن في الأقواس نصف الدائرية التي تولدت من ظهور الرجال وغطاء عربة الحنطور وأقواس العجلتين، وقام الفنان بالتنويع في مساحات تلك الأقواس والقيم اللونية التي عالجها بها عن طريق صياغة تيارات من الانسجام اللوني والملمسي وبالاستمرارية في تحريك العين المشاهدة مع سريان اللون البرتقالي والأحمر في قلب الكتلة المندفعة.
كما استطاع الفنان تحقيق الاتزان للوحته عن طريق انقلاب القوس الخلفي لغطاء العربة إلى الخلف ثم مقابلته بتقويس ذراع الرجل في الكتلة العلوية باللوحة ثم وضعية العجلة الخلفية لعربة الحنطور في الركن الأيسر كمقابل لتلك الكتلة وتأكيد لقيمة الإيقاع الناتج في أنحاء اللوحة، تتجلى بوضوح الأساليب التي استخدمها كذلك في تحقيق المظهر القديم الذي يشبه المخطوطات والبرديات أو الجدران التي ترسبت عليها آثار القدم وعوامل التعرية، عن طريق المعالجة التأسيسية والتحضير باستخدام طبقات متتالية فوق النسيج ثم معالجتها بالإزالة والحفر والتفتيح واستخدام الفرشاة العريضة والخشنة والاسطوانة (الرولة) مع ألوان الأكريليك، التي استخدمها في تحضير لوحتيه.
تبدو في لوحته الثانية صورة العازف ذي الجلباب الصعيدي والعمامة الذي يمسك بالآلة التي تشبه الطنبورة النوبية ذات القاعدة المدورة والأوتار المتعددة يمسكها بشكلٍ مائل وهو يحتويها بين أعطافه كحبيبته، وهو مطرقٌ برأسه نحو السماء، في تماسك وكتلية شامخة لذلك الجسد القوي البنيان، تلك الخلقة الهائلة كعضد أب ، كظل مليك جرانيتي قديم، يصنع الفنان محجوب حسن تركيباً تصميمياً محكماً متماسكاً يسيطر به على مساحة اللوحة، حيث قام بتحليل الجلباب الصعيدي لمجموعة من المثلثات، تصنع تكويناً نحتياً شاهقاً مع خلفية اللوحة المؤلفة من المستطيلات الرأسية الممتدة، كما صاغ من أكمام الجلباب وفتحة العنق والعمامة المقلوبة ونصف الدائرة تردد نغمة تشكيلية مقابلة لقرص الشمس الذي يمد إليه بصره على المحور الرأسي للوحة وهو يتواصل مع القاعدة المستديرة لبدن الطنبورة في أسفل اللوحة بين يدي العازف.
اتجاهات الخطوط هنا تؤول دوماً إلى أعلى اللوحة مما يزرع الاستطالة والنمو التي ولدها أسلوب التخطيط الذي أنشأه بالأقواس، ومعظمها حاد وواضح يزيد من قوتها فى بعض المناطق التجسيم وإضفاء الظلال النحتية، وهو عندما يتوصل إلى تنظيم كلي لهذه المكونات التي تتسم بخصائص الكلية، والوضوح، والتماسك، والتحديد، والدقة، والاستقرار، والبساطة، والمعنى، فهو يستحق أن يطلق عليه اسم "الجشطلت الجيد" كما ذكر شاكر عبد الحميد، نكتشف ذلك المدى الذي تبلغه عمليات الصياغة والتشكيل والتحسين المستمر التي يعكف عليها الفنان، ويصل بفرادته إلى هدم القواعدية والنسق المهيمنة على طريقة ومنطق البورتريه نفسه ، فهو يعمد إلى إثارة التساؤل وإنتاج الجماليات التشكيلية الثرية.
وهكذا فإن ما نستنتجه من تحليلنا أن الرؤية الموضوعية التامة لشيء معين والتسجيل الدقيق التام له هما من الأمور المستحيلة، وثانياً أن المكون غير المتعلق بالمحاكاة في الفن كان واضحاً تماماً في ذلك الاختلاف والتفاوت بين الفنانين في تصويرهم للشيء الواحد نفسه كما كتب أستاذنا الدكتور شاكر عبد الحميد في كتابه الهام" الخيال – من الكهف إلى الواقع الافتراضي" وتشير هذه الحقيقة بدورها كذلك إلى أن هذا المكون غير الخاص بالمحاكاة يتعلق في جوهره بما يسمى في الفن بالشكل Form ذلك الذي لا يكون -لدى الفنان الحقيقي- شيئاً عشوائياً أو فائضاً عن الحاجة بل أمرا جوهرياً يرتبط بالرؤية الفنية وبكيفية تشكيل الفنان لعالمه، وهو ما يبدو لنا في أعمال الفنان السوداني محجوب حسن وكذلك بطريقة تعبيره عن روحه الخاصة في الوقت نفسه الذي يعبر فيه عن الحرية الجوهرية للروح الإنسانية في تجلياتها المتنوعة في مواجهة القيود والحواجز والأزمات، في فضاء الحركة والأشواق والاهتمامات، في مواجهة عالم الطبيعة الذي يقوم على أساس المقاومة للحرية وكذلك القيد والضرورة.
اللمحات حول ذلك الانتقال في الفن من الحياة إلى العمل الفني اللوحة التمثال .. الخ . إن ما كان بيكاسو يبحث عنه هو "المكافئ البنائي" إذا استخدمنا لغة الجشطلت ليس المكافئ البنائي لما هو موجود في الواقع فقط ؛ بل لما هو موجود في عقل الفنان ووجدانه أي المكافئ للطريقة التي نظر إليها من خلالها و التي شعر بها من خلالها أيضاً وهذه المكافئ البنائي سيختلف البحث عنه واكتشافه من فنان إلى آخر وخلال هذا البحث قد يتحرك الفنان جيئة و ذهاباً ما بين الحياة والفن، ليست حركة مرآوية فوتوغرافية يكون هو فيها المسجل والراصد لما يراه أمامه؛ بل قيل أيضاً أنها بندولية كما في كتابات (أرنهايم) ، و أحياناً دوامية و خلال ذلك كله يحاول الفنان أن يلتقط موضوع عمله الفني و يجسده من خلال الحركة (اللعب بالبدائل بين الشكل والتعبير).
من خلال تحليلنا للعمل الفني قد يكون ممكناً بالنسبة إلينا أن نستكشف طبيعة الروح الإنسانية نفسها في سعيها المستمر نحو المطلق ونحو الخير والحق والجمال، ونحو الإنجاز والتحقق أين تحلق تلك الروح الوثابة؟ ما هو الحلم الذي يهيمن على سعيها الدائب نحو الإبداع التشكيلي؟ ما هو مصدر الإلهام المتوقد والمتدفق الذي لا يكف عن النداء؟ ممكن أن ترى نفسك طائرا حرا تسيطر عليك رغبة ملحة في التمرد والبوح والتحليق، يمكك أن تكون مصمما دقيقا صارما يخطط جيداً ويحل مساحات المسطح التصويري بمنتهى الحكمة والاتزان، يشغله منطق رياضي هندسي، أو تكون ذلك العاشق الذي يأخذه الوجد ويتحد مع عمله إلى حد الذوبان، وينطلق في طقسات تشبه حال الوجد الصوفي.
|