القاهرة 29 اكتوبر 2024 الساعة 10:46 ص
بقلم: د. هويدا صالح
"مصطفى عبد الرازق مسافرا ومقيما" كتاب صدر عن دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بالقاهرة، وهي مذكرات الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر الأسبق. حرر المذكرات وقدم لها الروائي والشاعر أشرف أبو اليزيد.
"مذكرات مسافر" هو العنوان الذي اختاره الشيخ مصطفى عبد الرازق، ليصف أوراق رحلته، لأوربا، وقد أعطى لكل مقالة عنوانا فرعيا. وقد أراد أبو اليزيد أن يعد المذكرات بحيث يبدأ مسار الرحلة من مصر إلى أوربا ثم تنتهي في مصر مرة أخرى. وما بينهما يسافر الشيخ مصطفى عبد الرازق بين مدن مرسيليا وباريس وليون وريفها وجرينوبل وإكس ليبان ولندرة ولندن. لذا غيّر أشرف أبو اليزيد العنوان "مصطفى عبد الرازق مسافرا ومقيما" لأنه لم يضمن الكتاب مذكرات الشيخ في سفره لأوربا فقط، بل ضمنها أيضا سفرياته في مصر، لذا جاء العنوان"مسافرا ومقيما" مناسبا تماما.
يكشف أشرف أبو اليزيد في مقدمة الكتاب عن ظروف تحريره وإعداده لهذا الكتاب الممتع فيقول:"لعلَّ الصدفة وحدها كانتْ أولَ خيطٍ قادني لقراءةِ أوراق هذه الرحلةِ المهمةِ. وهي صفحاتٌ منسية، رغم أن مسطرَّها من الأعلام النادرين في تاريخ النهضة المعاصرة، لما بلغه من مكانة، وما تركه من أثر. وفي أوراق هذه الرحلة من شذرات التنوير ما يجعلها أكثر معاصرة مما يكتبه دعاة التنوير اليوم، وفيها من الدعوة للحوار مع الآخر وفهمه، ما يكاد يكون صدى لما يحدث الآن وكنتُ قد عثرتُ على مقالةٍ أولى للشيخ مصطفى عبد الرازق في مجلة "مجلتي" التي أصدرها قبل نحو سبعين عامًا الأديب أحمد الصاوي محمد. كانت "مجلتي" ـ التي صدر عددها الأول في ديسمبر 1934 ميلادية، وكما يقول أحمد الصاوي محمد في أحد إعلاناتها ـ جسرًا بين الشرقِ والغربِ، وهو جسرٌ لم يُخفِ عشق مؤسسها وصاحبها ومحررها لباريس على وجه خاص، حتى أنه جمع ما نشره في "مجلتي" حول هذه المدينة في كتاب ضخم أسماه "باريس".
في البداية نشر الشيخ مصطفى عبد الرازق هذه المذكرات على لسان شخصية أخرى، ربما مركزه ووضعيته العلمية في الأزهر جعلته يلجأ إلى أن يدون هذه المذكرات على لسان "الشيخ الفزاري"، ويؤكد أشرف أبو اليزيد أنه عثر في مجلة "مجلتي" أن الشيخ ابتدع شخصية أخرى وذلك في الأول من مايو عام 1935، وكان اسمها "صديقي المرحوم الشيخ حسان عامر الفزاري". وقد بدأ نشرها على أساس أن صديقه هذا قال له ألا يبدأ بنشرها إلا بعد سنوات ثلاث من رحيله. ومن يقترب من الصفات التي منحت للفزاري يدرك ـ دون أدنى شك ـ أنه شخصية متخيلة، يحمل في معظم صفاته ملامح شخصية الشيخ مصطفى عبد الرازق نفسه. فهو من الصعيد جنوب مصر، وقد سافر إلى فرنسا في 1909 ميلادية، وأقام ـ كما يصفه الشيخ مصطفى عبد الرازق ـ في باريس عاكفا على الاستفادة من دروس السربون وحسن المراقبة لكل ما يمر به في وسطه الجديد، ويعيش واصلا ليله بنهاره في العمل.
اشتهر الشيخ بالفكاهة وخفة الروح، وحضور الذهن ، وعذوبة الكلمة، وهذا الكتاب من أجمل كتب الرحلات التي لا تصور فقط أماكن وتفاصيل الرحلة، بل اشتغل الشيخ على البعد الثقافي، وقارب الثقافة الفرنسية وحاول أن يقربها لذهن القارئ العربي، ويكرس لقيم إيجابية فيها مثل قبول الآخر، والتحاور معه، وليس نفيه وإقصاؤه.
حين تقرأ الكتاب تجذبك لغته التي تكاد تحمل كثيرا من الطاقات الشعرية، والشعرية ليست خاصة باللغة فقط، بل بزاوية الرؤية التي يرى منها الشيخ العالم، ويصف أشرف أبو اليزيد في مقدمته التحريرية للكتاب هذه اللغة، فيقول:"ولغة الشيخ مصطفى عبد الرازق في جدها والهزل تكاد تحسبها من الشعر، ولعل تمهله في النشر بعد سنوات من الكتابة وأناته في ذلك ما استطاع سبيلا سببا في أن النص الذي تقدمه “مذكرات مسافر” من النصوص الأدبية الرفيعة في أدبنا العربي. يقول طه حسين: كان شديد الإيثار للأناة… وكان لهذه الأناة أثرها في كتابته فأنت لا تجد فيما يكتب معنى نافرا أو فجًّا، لم يتم نضجه قبل أن يعرب عنه. وأنت لا تجد فيما يكتب لفظا نابيا عن موضعه، أو كلمة قلقة في مكانها؛ وإنما كان كلامه يجري هادئا مطمئنا كما يجري جدول الماء النقي، حتى يداعب صفحته النسيم. وكنت أشبه له كتابته بعمل صاحب الجواهر: يستأني بها ويتأنق في صنعها لتخرج من يده جميلة رائعة تثير فيمن يراها المتعة والرضى والإعجاب".
والشعرية لم تكن فقط في لغة الشيخ، بل في استشهاد الشيخ مصطفى عبد الرازق بنصوص شعرية كثيرة لأبي تمام، والمتنبي والشريف الرضي وابن الفارض، نلمح فيه تلك الروح العاشقة للتراث العربي، ونعلم من سيرته كيف أنه ترك الشعر، بعد أن وصل فيه إلى مرتبة مرموقة، حتى أنه كان يرثي ويمدح شعرًا، ولكنه لم يشأ أن يجمع ما تفرق من قصائد وهي كثيرة. ولم يشأ شقيقه الشيخ علي عبد الرازق أن يفعل ما أبى الراحل فعله.
يستقصي أبو اليزيد علاقة الشيخ عبد الرازق بالأزهر وبأساتذته، ويؤكد على أن الشيخ دَرَسَ في الأزهر الشريف، وكان اجتهاده ونبوغه وراء نجاحه في امتحان العالمية في 25 يولية من العام 1908 ميلادية ونيله الدرجة الأولى، وهي أرقى درجات العالمية الأزهرية في تلك الأيام. وقبل أن يمضي شهر واحد على نجاحه انتدب في 11 أغسطس من العام نفسه للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي، حتى استقال منها في السادس عشر من مارس 1909 ميلادية، وكان عمره آنذاك 24 عامًا، إذا أخذنا عام مولده 1885 ميلادية المذكور في ترجمة شقيقه لسيرته الذاتية مأخذ اليقين.
كما درس الشيخ على يد الإمام محمد عبده، واستفاد من منهجه في الانفتاح على أفكار الأمم الأخرى، وهو ما يتبدى بشكل جلي في أوراق رحلته "مذكرات مسافر". فلم يكن منهجه بالضيق التقليدي الذي يتمسك به الأزهر في هذه الفترة، ولذلك يعدان، الإمام محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرازق، مثالين للانفتاح على الفكر الغربي، وكلاهما يمثل في الوقت الاهتمام بالفكر العربي وتراثه، كما أنهما معا يهتمان بالفلسفة. ونعلم أن للشيخ مصطفى عبد الرازق مدرسته في الفلسفة الإسلامية وفيها قدم كتابه فيلسوف العرب والمعلم الثاني، الذي يتناول فيلسوف العرب: الكندي، والمعلم الثاني: الفارابي، والشاعر الحكيم: المتنبي، وبطليموس العرب: ابن الهيثم، وشيخ الإسلام: ابن تيمية. ورغم صغر حجم هذا الكتاب إلا أنه نموذج على تمكّن شيخنا من منهجه.
قد أراد أن تكون مذكراته قراءة للآخر المخالف لنا في العلوم والآداب والفنون والسياسة والاقتصاد والمجتمع، وما أراه إلا مصيبا في ذلك كله، ناجحا في عقد المقارنة إذا صحت، واستشفاف المطابقة إن وجدت، واستنباط الدروس ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
فهو يقارن بين رحلة البر وسفر البحر. ويقارن بين مشاهد باريس وأحوال لندن. ويقارن بين حياة مدينة ليون وريفها. ويقارن بين الثقافات في الشرق وتلك التي في الغرب. مثلما يقارن بين الأطعمة والمشارب والعادات والتقاليد، وبين الشرطي في مصر وبريطانيا، والنادل على نهر النيل ونظيره على نهر السين. حتى تصبح الرحلة بمثابة قراءة سوسيوـ ثقافية لمجتمع يزوره دارس للفلسفة، مبحر في التراث، ومعتدل في الفكر.
وقد شغف الشيخ مصطفى عبد الرازق بباريس شغفا شديدًا، وفيها قال: باريس عاصمة الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس! وهل غير باريس للحور والولدان والجنات والنيران، والصراط والميزان، والفجار والصالحين، والملائكة والشياطين؟! ولا شك أن أفكار الشيخ مصطفى عبد الرازق امتداد لأفكار زوار باريس منذ القرن التاسع عشر، لكنه استطاع أن ينقل ـ في كل خطوة ـ المعاني التي أرادها بشفافية بالغة. ولم يكن هناك من تحيز أعمى أو تحزب بغيض أو تطرف هوى. وفي الرحلة لقاء بمختلف الجنسيات والأديان، ومنها يقف موقف الشيخ المعتدل، الذي يضيء برأيه مواقف المغايرين له أكثر مما ينفر منهم.
وباريس التي يعشقها الشيخ مصطفى عبد الرازق ليست فوق النقد، حين يستدعي سلوك بعض من بها نقدًا: “أما سائق السيارة فقد أقبل بعد فوات الموعد المضروب. وبعد أن أظهر الركب تبرماً وضجراً من الانتظار، أظهروا ذلك تهامساً بينهم فإن أحداً لا يستطيع أن يجهر بالقول لسائق سيارة في فرنسا أو يخاطبه في غير إدهان. وإذا كانت الشكوى عامة مما يبدو في أخلاق الطبقات العاملة في البلاد الفرنسية من الجفوة والتمرد فإن السواقين على اختلاف أنواعهم هم أشد الطبقات جفوة وتمرداً وقلة مبالاة أن يسوقوا الناس إلى هلاك أم إلى سلامة. وحوادث القطارات كحوادث السيارات شنيعة متكررة كل يوم تفيض دماء وأرواحًا”.
ويذكر أبو اليزيد مواقف وآراء للشيخ تنم عن تلك الروح التى ترى العالم بدهشة وفرادة: ولما قضينا من باريس كل حاجة، ومسح بالأركان من هو مسح، قال رفيقي: "نذهب إلى لندرة في طيارة "طائرة". يغفر الله لك يا رفيقي! وهل يناسب وصف العالمية “يقصد شهادة العالمية الأزهرية” أن نرقى بطيارة إلى الأفق الأعلى فنزاحم الملائكة بالمناكب عند أبواب السماء، أو نتشبه بالجن في استراق السمع؟ قال فالأمر هين نستفتي في المسألة شيخ الجامع الأزهر أو مفتي مصر وننتظر الجواب. يغفر الله لك مرة أخرى! إن شيخ الجامع الأزهر ومفتي مصر وإخوانهما لم يردوا تحية الإسلام في إدارة المعاهد الدينية، وقالوا لمن ألقى إليهم السلام: لست مؤمنا. فهل تطمع في الرد على استفتاء يرسل إلى حضرات أصحاب الفضيلة من باريس؟"
ولا شك أن معركة الشيخ مصطفى عبد الرازق مع بعض قيادات الأزهر الشريف كانت وراء تلك المُلح الطريفة التي يذكرها في ثنايا كتابه بين حين وآخر، وهي تشير إلى أن تشدد الأزهر في بعض جوانبه لم يكن له ما يبرره. وهي نظرة سماحة لم نعتدها ممن درسوا في الأزهر إلا لماما.
وقد ضمت الطبعة الثانية من المذكرات مقالات الشيخ مصطفى عبد الرازق : مذكرات مقيم وتمثل أدب الرحلة إلى الداخل، صال فيها الشيخ وجال في ربوع مصر، وقدم لمحات ورؤى بصيرة لحالنا، ولعله كان يضع اليد على الجرح لا لينكأه متشفيا، ولكن ليضمده شافيا. ونلمح أيضا بين سطور هذا المقيم كيف كانت آراؤه في كل مناحي الحياة تستمد قوتها من انشغل بها، وحرص عليها، وسعى إلى إصلاحها وتقدمها. ولا تخلو تلك الأوراق ـ أيضا ـ من أسلوب الشيخ الرصين وإن سخر، الرشيق وإن قسا. وإني أكاد اقرأ في سطوره أنه كتبها اليوم، فهل عاشت كلماته خالدة مستبصرة المستقبل، أم أننا ما نزال نعيش الماضي؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-
أشرف أبو اليزيد شاعر وروائي وصحفي مصري أصدر عددا من المجموعات الشعرية منها: وشوشة البحر ، الأصداف، ذاكرة الصمت،فوق صراط الموت،ذاكرة الفراشات. كما له عدد من الكتب النقدية منها:سيرة اللون، سيرة مسافر،نون النسوة، نهر الفن، طريق االحرير، كما له كتب مترجمة منها : أنا والسوريالية، سلفادور دالي،ألف حياة وحياة،الشاعر كي أون،قديس يحلق بعيدا،شعر تشو أو ، هيون .
-
الشيخ مصطفى عبد الرازق: عالم جليل، له عدة مؤلفات منها : دراسة عن البهاء زهير، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميةـ الإمام الشافعي، الدين والوحي والإسلام، فيلسوف العرب والمعلم الثاني، محمد عبده، سيرته وحياته، مذكرات مسافر، مذكرات مقيم. والشيخ شقيق المفكر علي عبد الرازق صاحب الكتاب الأشهر" الإسلام وأصول الحكم". ويُعدُّ الشيخ مصطفى عبد الرازق أحد علماء القرن العشرين في مصر، وقد تبوأ فيها من المكانة ما يستحق، فكان سكرتير مجلس الأزهر الأعلى 1915 ومفتشا بالمحاكم الشرعية 1920 وقد شارك في ترجمة "رسالة التوحيد "للإمام محمد عبده إلى الفرنسية 1925 كما كان عضوا بمجلس إدارة دار الكتب المصرية، وأستاذا للفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة 1928 وحصل على درجة البكوية 1937 والباشوية 1941 وكان وزيرا للأوقاف خمس مرات بين سنوات 1938 و 1942 وشيخا للأزهر 1945ورئيس الجمعية الخيرية الإسلامية 1946 وأميرا للحج 1946، قبيل وفاته في 15 فبراير سنة 1947.
|