القاهرة 24 اكتوبر 2024 الساعة 11:49 ص
بقلم: أحمد محمد صلاح
قد يساورنا الشك في أن يكون أفلاطون هو أول من نادي بالمدينة الفاضلة، فقد جاب أفلاطون عدد من بلدان العالم القديم وحضاراته، واختلط بعدد كبير من علماء وفلاسفة هذه الحضارات، وأعتقد أنه قد كون آرائه عن المدينة الفاضلة من كهنة المعابد المصرية وأيضا في بابل، فأخذ منهم المناحي الاقتصادية والاجتماعية التي صاغها بعد ذلك في محاوراته "الجمهورية" ليسميها المدينة الفاضلة.
خلصنا في المقال السابق أن رؤية افلاطون للحاكم أنه لابد وأن يكون فيلسوفا، وفي كتابه "الجمهورية" يحدد مقومات الفيلسوف، كما يضع أيضا بعض النقاط الأساسية لما يجب ان تكون عليه الدساتير الموضوعة.
ويلخص برتراند راسل مبدأه عن المدينة الفاضلة حول مبدأ العداله فيقول: إن الغاية الشكلية التي ترمي إليها «الجمهورية» هي أن تحدد معنى كلمة «عدالة»، لكن الحوار قد انتهى في مراحله الأولى إلى نتيجةٍ هي أنه لما كان الأيسر في كل شيء أن يُنظر إليه مكبرًا عن أن يُنظر إليه مصغرًا، فالبحث فيما يجعل الدولة العادلة عادلةً أجدى من البحث فيما يجعل الفرد العادل عادلًا، ولما كان يتحتم أن تكون العدالة إحدى صفات أفضل دولة يمكن للخيال أن يصورها، ترى أفلاطون يبدأ بتصوير تلك الدولة المثلى، وبعدئذٍ يأخذ في تحليلها ليرى أي جوانب كمالها يمكن أن يُسمى "عدلًا".
والمقصود، أن العدل لابد وأن يأتي من نظرة مجتمعية فوقية، قد يكون أفلاطون قد وضع اللبنة الأولى لما يعرف الآن بالسلطة القضائية، والتي قسمها مونتسكو فيما بعد الي سلطات ثلاث حتي لا تتداخل أعمال كل سلطة مع الأخرى وهو ما سيأتي وقته لنفنده.
وبعد أن قسم أفلاطون طبقات الشعب إلى ثلاث طبقات جاء الدور علي تهذيب هؤلاء الرجال، فكان بداية بنائه للمدينة الفاضلة يأتي من التعليم، وفي مذهب أفلاطون فالتعليم منقسم إلى شعبتين: الموسيقى والألعاب، ولكلٍّ من هاتين الكلمتين معنًى أوسع من معناها كما نفهمه اليوم؛ ف«الموسيقى» تشمل كل شيء في عالم الفنون، و«الألعاب الرياضية» معناها كل ما يتعلق بتدريب البدن وصلاحيته، ف«الموسيقى» تكاد تشمل بمعناها ما نعنيه نحن اليوم بكلمة «ثقافة»، و«الألعاب الرياضية» أوسع قليلًا مما نُسميه اليوم «تمرينات بدنية».
ومهمة الثقافة هي إعداد «السادة المهذَّبين» بالمعنى المفهوم من كلمة «جنتلمان» في إنجلترا الآن، وهو معنًى يرجع إلى أفلاطون إلى حدٍّ كبير، فأثينا في عهده كانت في وجهٍ من وجوهها شبيهة بإنجلترا في القرن التاسع عشر، ففي كلٍّ منهما طبقة أرستقراطية تتمتع بثروة ومنزلة اجتماعية، لكنها لا تحتكر السلطة السياسية، وفي كلٍّ منهما كانت الطبقة الأرستقراطية تحاول جهدها أن تظفر بكل ما يسعها أن تظفر به من النفوذ عن طريق التأثير بسلوك أفرادها، لكن الأرستقراطية في مدينة أفلاطون الفاضلة تحكم حكمًا مطلقًا من كل قيد.
ويؤكد أفلاطون أن التعليم كان يُعنى أول ما يُعنى بغرس صفات الرصانة وحسن الذوق والشجاعة، فلا بُدَّ أن تُفرض منذ البداية رقابةٌ شديدة على كل ما عسى أن يطالعه الناشئون من آداب، وما ينصتون إليه من موسيقى، ولم يكن يُسمح للأمهات والمرضعات أن يقصصن على أطفالهن إلا قصصًا اعتمدتها السلطة المختصة، فلا يجوز قراءة هومر وهزيود لأنهما يصوران الآلهة في سلوكٍ شائن أحيانًا، وذلك لا يربي النشء تربيةً قويمة، فلا بُدَّ أن يتعلم الصغار أن الشر يستحيل صدوره عن الآلهة، كما يجب أن يبذل قصارى الجهد في تعليم الأبناء أن يُقبِلوا على الموت راضين في ساحة القتال، لا بُدَّ أن يتعلم الأبناء أن العبودية شرٌّ من الموت، ولهذا لا ينبغي أن يستمعوا إلى قصص فيها رجال صالحون يبكون ويُوَلولون، حتى إن كان ذلك بسبب موت أصدقائهم.
وفي المسرح امتعض أفلاطون من تمثيل الرجال أدوار النساء، ففي فلسفته فإن الرجل هو الرجل، كما امتعض أيضا من تمثيل أدوار الشر في المسرح، ولابد وأن يذكر في تلك المحاكاة أنه تمثيل فقط يأخذ منه الحكمة فقط، حتى تهذب الأنفس.
|