القاهرة 22 اكتوبر 2024 الساعة 10:23 ص
بقلم: د. هويدا صالح
دائما ما نسمع من يردد أن الحداثة قد انتهت وأننا الآن نتعامل مع فكر جديد هو ما بعد الحداثة، غير أن الانتقال من مرحلة ساد فيها فكر بعينه إلى مرحلة أخرى ساد فيها فكر آخر مغاير يتطلب منا أن نحدد ملامح المرحلة الفكرية التي انتهت وأسس ارتكازها هذا ما طرحه المفكر الإيطالي جاني فاتيمو في كتاب "نهاية الحداثة" الذي صدر عن المركز العربي للترجمة وقام بترجمته نجم بوفاضل. يقدم المترجم للكتاب بمقدمة يتحدث فيها عن السياقات التاريخية التي أدت إلى انتهاء الحداثة ونشوء مرحلة فكرية جديدة ومغايرة :"إذا كانت "الحداثة" اتصفت بأنها مسار تاريخي تحكمه فكرة التنوير التقدمي أو التصاعدي الذي يسير على قاعدة العودة إلى الأسس، أي إلى الأصول للاستحواذ عليها مجددا، فإن التحول الى ما بعد الحداثة لا يندرج في التقدم أو التطور من شيء إلى شيء أجدّ، كي لا نبقى على الخط عينه. كما أن الحقبة الجديدة لا تستطيع أن تنبني على "أسس جديدة لأنها لا تستطيع نقد "فكر الأساس" أي الفكر الذي يبحث باستمرار عن أساس ينبني عليه، باسم فكر تأسيسي آخر، وإلا غدت نسخة مجددة عن الحداثة".
يورد فاتيمو نصا مجازيا للفيلسوف نيتشه يعبر من خلاله عن علاقة الإنسان بالأفكار ومراحل التكون الأساسية التي يمر بها العقل الإنساني، حيث يقول نيتشه: "الروح تصبح جملاً، ويصير الجمل أسداً، ثم يصير الأسد طفلاً". هذا النص الاستعاري يقصد به نيتشه أن الجمل هو الإنسان الذي يحمل عبء القيم السائدة وأثقال التربية والأخلاق والثقافة، بالاختصار هو مزيج من إنسان يحمل أفكار الميتافيزيقا الدينيّة، والأفكار العقلانية التي حرّرته من ميتافيزيقا الدين، لكنه استبدلها بقيود المنهج والقيم وبأنها وضعت الإنسان في قلب الكون.
في التحوّل الثاني عند نيتشه، يصير الجمل أسداً بأن يتمرّد ويحطّم القيم كلّها. تحدّث نيتشه عن تمرّد يحطّم الأثقال كلها، ينتقد القيم بما فيها قيم الحداثة والدين المتمحورة حول مبدأي الخير والشر. ويرى الكاتب أن ذلك الأسد الذي تحدث عنه نيتشه هو بداية الإنسان العدمي، لكنها عدميّة من نوع خاص "عدميّة متمّمة" وفق تعبير فاتيمو. ونيتشه الذي عاش في عزّ صعود العقلانية في القرن التاسع عشر، كان رافضا لقيم عصره، ويرى أن العقلانية ما هي سوى ميتافيزيقا أخرى، حطّمت ميتافيزيقا القدماء والأديان، لكنها أعلت صوت ادّعاءاتها القويّة بأنها تستطيع أن تحلّ محل تلك الميتافيزيقا، واستولت على الإنسان ووجوده وكونه، فصارت ميتافيزيقا عقلانيّة بديلة.
يورد فاتيمو رأي هايدجر في مقولة ديكارت الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود" ويرى بأنه صنع مأساة كبرى بأن قلّص الكائن الإنساني إلى مجرد وعي، بل إن وعيه هو كامل وجوده، ثم أكملت العقلانية بأن قلّصت وجود الكائن إلى وظيفة ما في المجتمع أو التاريخ. ويبدو ذلك الوعي أو التفكير كأنه سماء، فأين الأرض التي يجب أن يسير عليها ذلك الإنسان؟ هل يمكن أن نختصر الإنسان في مجرد عملية تفكير؟ أين الأرض التي يجرجر عليها الإنسان تجربته في أنه "موجود" فيها؟
ثم ماذا عن الأبعاد الأخرى للإنسان؟ ماذا عن المشاعر والنزوات والجسد والعواطف والشغف والاضطراب النفسي وغيرها؟ من تلك الوجهة، يبدو هايدجر كأنه يسير في ركاب الذاتية (نوع من «التأويليّة الذاتيّة») وأعلامها، خصوصاً من نظموا الذاتيّة ضمن سياقات تاريخيّة واجتماعيّة مثل الفيلسوف هوسرل والفيلسوف غادامر، لكنّ هايدجر يتميّز بالدعوة إلى ذاتية واهنة، لا تسعى إلى التملك إلا بوصفه تملكاً عابراً وزائلاً. إن الإنسان حينما يكون مستعدا لعيش زواله، يعني أنه يمتلك مصيره بضعف ووهن شديدين، لكنه يقاوم أن تستلبه شروط عيشه، ويتمسك بإنسانيته الواسعة، من دون أن يتحوّل إلى "إله" ولا يصبح جزءا من إرادة التاريخ وحتميّاته، ولا حتى آلياته الحاكمة. وهذا الضعف الإنساني أدخل هايدجر إلى تنظيراته عن الجمال والوعي الجمالي وعلاقته بالكينونة والزمان.
ونهاية الحداثة طرحها أيضا الكاتب في الفصل الثالث الذي تحدث فيه عن نهاية الفن أو "موته وأفوله" كما طرحها كذلك في الفصل الرابع الذي أعطاه عنوان "انكسار الكلمة الشعرية" وكلها نهايات تعكس جانبا من نهاية الميتافيزيقا. وهي دعوات إلى التعافي وهو مصطلح يحكم مسار هذا الكتاب، أي أن العبور من الحداثة الى ما بعد الحداثة لا يكون بالتجاوز، إنما بالتعافي.
وإذا كانت نهاية الحداثة تحولا نحو ما بعد الحداثة أو تعافيا من الميتافيزيقا أو تحررا من الأسس التي أرساها الفكر الميتافيزيقي، فإن العبور إلى الحقبة الجديدة لا بد من أن تمر في الأونطولوجيا التأويلية التي تكشف البنى الجديدة المكونة للوجود. الوجود المتعافي من الثنائيات التي فرضتها الميتافيزيقا يسير في ركاب ما بعد الحداثة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
ـ جاني فاتيمو مفكر إيطالي له عدة كتب فلسفية منها: مقدمة عن هديجر، حوار مع نيتشه، ما بعد المسيحية، مغامرات الاختلاف، التفكير بضعف، أبعد من الذات، مستقبل الدين، ما بعد التأويل وداعا للحقيقة، كما أنه وضع مقدمة الترجمة الإيطالية لكتاب "العقل في عصر العلوم" للمفكر الألماني هانز جورج غادامر، كما أنه ترجم للفيلسوف هيدجر التاريخ واللغة، كما ترجم لهانز غادامر"الحقيقة والمنهج"
ـ هناك من يرى أن الحداثة نشأت مع حركة مارتن لوثر الذي تمرد على الكنيسة و سلطتها الروحية في القرن الخامس عشر، وثمة من يربط الحداثة بديكارت صاحب مذهب الشك في القرن السابع عشر، أي إعمال العقل، وإعادة النظر في كل شيء، ومنهم من يربط المصطلح بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، حيث ميدانه العقل والاستنارة على ضوء العلم والتكنولوجيا، وأخيرا هناك من يربط مفهوم الحداثة بمطالع القرن العشرين. أي في عصر الإذاعة والكهرباء ووسائط النقل السريعة، ووسائل الاتصالات المبتكرة.
|