القاهرة 22 اكتوبر 2024 الساعة 10:15 ص
بقلم: نيكولايا ريبس
ترجمة: محمود المصري
• العنوان الأصلي للمقال:
The dark and white flours of ideology :BREAKING BREAD
كنت أحدث والدي في الهاتف، تحدثنا عن برلين، فسألني سؤالا لم أفكر فيه من قبل رغم أن الموضوع عزيز على قلبي، سألني والدي: كيف هو الطعام؟
انتبهت ساعتها أنه لم أتناول الطعام الألماني منذ فترة، فقد كنت أعيش في حي نيوكولن الذي تعيش فيه أغلبية تركية، وأنني آكل دوما المأكولات التركية والتايلاندية والسورية والإيطالية – كل الأطعمة ما عدا الألمانية. كان الطعام الألماني التقليدي نادراً، رغم أن الخبز الألماني كان وفيراً!
كتب برتولد بريخت في مذكراته في عام 1941 حول هذا الموضوع: لا يوجد خبز مناسب في الولايات المتحدة وأنا أحب خبزي. وجبتي الرئيسية في المساء هي الخبز والزبدة. والشكوى الرئيسية للعديد من الألمان الذين يعيشون في الخارج هي نقص الخبز المناسب. على عكس جيرانها الجنوبيين مثل فرنسا أو إيطاليا ، مع خبزهم الهش كالهواء، خبز فوكاتشيس الإيطالي، وخبز باغيت الفرنسي. إن مناخ ألمانيا لا يلائم زراعة قمح الدقيق، ولذلك تعتمد ألمانيا على العجين المخمر الناضج المصنوع من دقيق الدنكل أو الجاودار والمليء بالحبوب، المكسرات والبذور.
يستحضر الخبز ذكريات مشاركة وجبة طعام مع أحبّةٍ خلال وقت السلم وإشباع الجوع، وشعوراً بعيداً عن دولة تحاول القيامة من هزيمة الحرب العالمية الأولى، وقسوة الظروف الاقتصادية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي ، والاضطرابات السياسية التي شهدتها جمهورية فايمار.
خلال الحرب العالمية الثانية، استغل الحزب النازي مناخ الراحة الذي حققه توفر الخبز. في نشرتها اليومية بتاريخ 15 أكتوبر عام 1941، أبلغت وكالة التلغراف اليهودية قراءها أنه بالإضافة إلى تحميل اليهود مسؤولية الركود الاقتصادي وقتل المسيح ، يُلقي الألمان الآن باللائمة على اليهود بسبب إنتاجهم للخبز الأبيض. وقد اقتبست الوكالة عن أحد المذيعين النازيين أن اليهود قد روَّجوا لـ"صناعة الخبز الأبيض" من أجل المضاربة وبقصد إضعاف صحة الشعب الألماني أيضاً. قبل أن يستقر اليهود في ألمانيا، كان الألمان يأكلون عمومًا خبز القمح الكامل. ومع ذلك، خلال القرن الماضي، اندسَّ اليهود بين المنتج والمستهلك، وشجّعوا على إنتاج "دقيق ميت" خالٍ من القيمة الغذائية الرئيسية. كان هذا جزءاً يسيراً من الدعاية الخبيثة بسبب القِيَمِ النفسية التي ينطوي عليها الخبز. إن إلقاء اللوم على اليهود في صنع الخبز الأبيض – المواد غير المغذِّية التي ظهرت فجأة في المخابز ومحلات البقالة في جميع أنحاء ألمانيا – وضعهم في تضاد شديد مع القيم التقليدية.
بسبب دوره الرئيسي في تغذية الإنسان، ورد ذكر الخبز في عدد لا يحصى من المراجع الثقافية والدينية: ملحمة جلجامش؛ وصف مصر كأرض لأكلة الخبز؛ الاضطهاد اليهودي وعيد الفصح (خبز المنكوبين)؛ الصرخة الرومانية "الخبز والسيرك"؛ الخبز كرمز في شعر عمر الخيام؛ الخبز الذي يدل على جسد المسيح في القربان المقدس..
باختصار، وبأبسط تعبير، يُعَدُّ الخبز، بمكوّناته الصحية، قوام الحياة. يستمر الخبز الألماني في تجسيد هذا التقليد ، الذي يفترض أن اليهود يدمرونه بخبز أبيض معالج..
على عكس الاحتقار الألماني له، فقد أصبح الخبز الأبيض في الولايات المتحدة رمزاً للتصنيع الناجح لمستقبل عصريٍ واعدٍ. في أوائل القرن العشرين، طور الأمريكيون قلقًا جديدًا بشأن التلوث المحتمل لمصادرهم الغذائية في كتابهما الصادر عام 1904 بعنوان "الأطعمة غير المطهية وكيفية استخدامها: بحثٌ في كيفية الحصول على أعلى أشكال الطاقة الحيوانية من الطعام" ، مع وصفات لإعداده، المركّبات الصحية؛ يجسد يوجين كريستيان ومولي جريسوولد كريستيان الرهاب الدرامي المحيط بكلٍ من الخبز المنزلي وخبز المخابز: "ينتفخ الخبز عندما تنشط فيه بكتريا الخميرة ، لأن الملايين من هذه الكائنات الصغيرة ولدت وماتت ، ومن جثثها المتحللة هناك ينتج الغاز تماماً كما يحدث في جثة خنزير ميت".
يا للقرف! كان الخبز الذي يتم إنتاجه بكميات كبيرة يبدو أكثر أمانًا بطريقة ما، أكثر تعقيماً، في نظر الجمهور..
كان الخبز العجيب، الذي أُنتِجَ عام 1921، هو المعيار الذهبي؛ الأبيض متوهج ، يتصف بالطراوة، (وبعد سنوات) أقل تغذية ، بالكاد يكون خبزاً. في نهاية المطاف، ارتبطت شعبيته ورواجه بأيقونة ثقافية وثيقة الصلة بروح العصر الأمريكي وذائقته. وفي مقال على موقع سميثسونيان لإحياء ذكرى عجائب الخبز، قيل: "إن عجائب الخبز الجديدة لا تشير إلى الموقد والمنزل. على العكس من ذلك ، فإن ألوان الشعار والنقاء المرئي غير الطبيعي لهذا الأبيض النابض بالحياة، الأبيض البكر، رغيف بوزن 1.5 رطل أثار روعة العالم الآخر لنظام التصنيع الهائل الذي كان ينظر إليه على أنه مستقبل أمريكا". حيث كان الخبز الألماني يعني العودة إلى الماضي، الذي تم اعتباره، لاحقاً، ماضياً أسطورياً حيث حكم الآريون، قاتل الأمريكيون من أجل خبز أبيض لمستقبل صناعي.
في الواقع، وقعت سابقة للخبز الأبيض كرمز وطني خلال الحرب العالمية الأولى. وبسبب الموارد الغذائية الوفيرة في الولايات المتحدة ، فقد زودت كلّاً من إنجلترا وفرنسا وبلجيكا ودول أخرى كانت عاجزة عن توفير خمسة آلاف سعرة حرارية في اليوم مثل التي كان ينعم بها الجنود الأمريكيون.
لتخفيف عبء شراء وشحن كميات هائلة من القمح، حددت إدارة الغذاء الأمريكية سعر السلعة. في الوقت نفسه، أنشأ وودرو ويلسون لجنة الإعلام (CPI) ، وهي وكالة ألهبت الدعاية ، والتي شجّع بعضها على الاعتدال واستبدال بعض المكونات بمزيد من الخيارات المقتصدة. فكُتِبَ على أحد ملصقات إدارة الغذاء الأمريكية: وفروا القمح لجنودنا
في مقالته التي صدرت عام 1948 بعنوان "الخبز أو الحرية؟" ، قدم المؤرخ ف. إدوارد لوند مقالة مثيرة للاهتمام حول تسييس الخبز: "الوعد الانتخابي بالخبز للفقراء – ’ناولني البسكويت، يا أبي – و "ضرائب أقل" على ممتلكات الأغنياء – ينجح باستمرار، خصوصاً إذا وعد المرشح السياسي، مقابل الحصول على أصواتهم ، بحماية كل مجموعة من المجموعات الأخرى. يحاجج لوند بأن الاستبداد هو، في أبسط المستويات، خبز مقابل الحرية.
عندما تتم مناقشة الخبز في الأنظمة الاستبدادية ، فليس باعتباره مجرد خبز ، بل باعتباره خبز عقد سياسي معدي: تخلى عمّا يعرِّفكَ كإنسان (إرادة حرة) لصالح ما يحميك (الغذاء). فالدولة تضمن لك الرزق مقابل الامتثال.
عندما يعد النظام الاستبدادي بتوفير الخبز على حساب الحرية ، فماذا عن الخبز الديمقراطي؟ فعندما طلبت حكومة الولايات المتحدة من المواطنين التخلي عن القمح المنزلي من أجل إطعام الجيش الأمريكي، لم تكن تحث الناس على القتال من أجل الخبز، بل طلبت منهم التضحية بجزء من نظامهم الغذائي من أجل الكفاح من أجل الإيديولوجية. تخلوا عن الخبز من أجل الحرية.
الخبز كرمز لتلبية الاحتياجات المادية والفيزيقية تم استحضاره في حركة حق الاقتراع للمرأة الأمريكية، لكن هناك جرى استبعاد التناقض بين الخبز والحرية باعتباره خياراً زائفاً. كانت صرخة المطالبين بحق المرأة في الاقتراع: "الخبز والورود" ، وهو شعار صاغته هيلين تود في أوائل عام 1910 من أجل خطاباتها التي كانت ستلقيها أثناء سفرها عبر ولاية إلينويز للدفاع عن حقوق المرأة. في مقال نُشر في المجلة الأمريكية، في سبتمبر 1911 ، قدمت تود، مفتش المصانع، توضيحا إضافياً لشعارها، مضيفة أن حق المرأة في التصويت "سيكون كبير الفائدة عندما نحصل على خبز الحياة ، الذي هو الوطن/ المنزل، المأوى والأمن، ورود الحياة ، الموسيقى ، التعليم ، الطبيعة والكتب، تصبح جميعها ميراث كل طفل يولد في البلد، وفي الحكومة التي تتحدث هي باسمها ". ببساطة، تعترف تود بأنه في حين أن الخبز قد يكون قوام الحياة، فالحرية والمسرّات التي تستتبعها هي على القدر نفسه من الأهمية.
وكيف أحب الخبز أنا؟ أنا أفضل أن تكون شرائح الخبز سميكة وعليها الكثير من الزبدة ، كما أحبه أن يكون خالياً قدر الإمكان من الرمزية السياسية. ولكن حتى هذا، للأسف، لا يمكن أن يكون لي، فقد تبيَّن أنني شديد الحساسية تجاه الغلوتين واللاكتوز..
|