القاهرة 22 اكتوبر 2024 الساعة 10:01 ص
قصة: عمر أبو القاسم الككلي
وجدت المقهى مقفلة. كنت على موعد مع شخص سيقدم من مدينة تبعد بضع عشرات الكيلومترات، وسوف نذهب بسيارته إلى مزرعته هناك، لنقضي معا حوالي يوم كامل.
يفصلني عن الحد الأقصى للموعد ساعة تامة. الجو ساخن. بين الحين والآخر تهب موجة من الغبار، فتنتابني نوبة من العطاس. إحساسي يزداد بملمس الغبار في شعري وعلى بشرة وجهي الدهنية وجفوني وشفتي وطعمه المستفز على طرف لساني، ويزداد إحساسي بمضايقة العرق الراشح من الإبطين.
في مثل هذه الحالات أهدئ أعصابي، ساخرا من نفسي، بقولي: ماذا لو دعتني، الآن، امرأة في عجلة من أمرها.
الحركة في الشوارع وفي الساحة الصغيرة، التي أشرف عليها من مكاني، خفيفة، وليس في المكان ما يجذب الانتباه. فركزت عنايتي على تأمل النساء اللائي يقعن في مرمى نظري، وتصنيف جمالهن على طريقة صديق مولع بتصنيف جمال النساء، نسيمة "أستاذ علم جمال (استاطيقا) النساء".
تدخل الساحة مجموعة صغيرة من الرجال والنساء، يدل اللحاف الذي ترتديه امرأتان مسنتان من بينهم، على أنهم من بلد شقيق مجاور.
توجد بينهم امرأة شابة، ظللت أراقبها .
ليست ذات جمال طاغ، أو صارخ، أو نفاذ. ولا جاذب، أو آسر. بل هي ذات جمال ـ كما كان صديقي عالم جمال النساء، على الأرجح سيسميه ـ ماكر متسلل.
جسدها أميل إلى السمنة ويعتوره بعض النشاز. لكنه جسد مستريح، يهسهس بنار ناعمة، يانعة، يقظة (دون أن تكون متحفزة) تهمس وتهفهف، ممتلئة بردا وسلاما، تنبع من ثغرها ابتسامة، تشيع فى وجهها صحوا ريانا.
يسلمونها آلة التصوير لتلتقط لهم صورة. ابتسامتها الممتلئة، الطرية، النابضة، والتي لا تقصد منها أن تبلغ معنى محددا للآخر، بل هي خاصة من خواصها، تصدر عنها كما يصدر الدفء عن النار، تزداد اتساعا، حتى تكاد أن تتحول إلى ضحك، وهي تطلب منهم أن يتأخروا قليلا أو يتضاموا، فيتحركون، لكن ليس كما ترغب تماما.
أعتقد أنهم ليسوا حريصين على الظهور في الصورة، قدر ماهم حريصون على أن يبقوا المرأة أمامهم أطول فترة معقولة، كي تشملهم وتهب عليهم ابتسامتها، جميعا. ولأن ابتسامتها منزهة عن الغرض ومجردة من المعنى، فهم لا يتنافسون على الاستئثار بها.
عندما أنهت الأمر بالضغط على زر الآلة، أخفو إخفاقهم وسط ودهم العميق .
وهم يغادرون المكان، تلقي بنظرة في اتجاهي، دون أن تنظر إلي، بانشراح وجهها وابتسام ثغرها، فينسبغ انشراحها وابتسامها على رصيف المقهى والكراسي والمناضد التي صار عامل المقهى يخرجها ويهيئها على الرصيف وظهر عامل المقهى المنهمك فى عمله غير شاعر بوجودها والأصص الخالية من النباتات والسياج الذي أتكئ عليه ويحجز رصيف المقهى عن الساحة وأنا والسيارات الواقفة وأسفلت الشارع والسيارات العابرة وشاغليها والسابلة وأكداس القمامة، سائلين بلطافة وتمهل، ليصبا، كالأنهار العظيمة(*)، في البحر .
(*) " الأنهار العظيمة تصب في البحر". مثل صيني.
|