القاهرة 22 اكتوبر 2024 الساعة 09:58 ص
بقلم: محمد جمعة توفيق
الأطعمة ليست مجرد وسيلة لإشباع الجسد، بل هي تعبيرٌ عن تاريخٍ مشترك، ولغةٌ تتجاوز الأجيال وحدود البلاد. فالمأكولات التقليدية، بوصفاتها التي تناقلتها الألسن عبر الأزمنة، تمثل جسرًا يربط بين الحاضر والماضي، وتجسد ثقافة شعبٍ بأكملها على أرضه وتقاليده. في هذه المقالة، ننطلق في رحلةٍ عبر نكهاتها الرمزية في إسبانيا، ومصر، وبعض بلدان أمريكا اللاتينية، مستعرضين كيف أصبحت أطباق مثل الباييّا، والكشري، والسيفيتشي، وغيرها جزءًا من التراث الثقافي غير المادي، محافظةً على إرثٍ إنساني فريد، ونقله للأجيال القادمة.
-
المأكولات: كنوز التراث الثقافي اللا مادي
يشير مفهوم المأكولات كتراث ثقافي غير مادي إلى الممارسات والمعارف والتقاليد المتعلقة بفن الطهي التي انتقلت من جيلٍ إلى آخر، معبرة عن العلاقة بين المجتمع وبيئته وموارده الطبيعية وتاريخه العريق. وقد اعترفت منظمة اليونسكو بأهمية الحفاظ على هذه التقاليد الغذائية، إذ يحمل كل طبق تقليدي في طياته جزءًا مهمًا من الهوية الثقافية للشعوب. عبر الطهي، تتقاسم المجتمعات تاريخها وذاكرتها الجماعية، وتتيح للآخرين فهم أسلوب حياتها وتقديره.، وبالتالي المساهمة في التقارب الثقافي بين الشعوب المختلفة.
دعونا نطلقها بصوت عالٍ، إن الطعام التقليدي لا يغذي الجسد فقط، بل يغذي الذاكرة والإحساس بالانتماء؛ فهو إرث يُنقل كهديةٍ ثمينة من جيل إلى جيل، لضمان بقاء نكهات الماضي في الحاضر.
-
الباييّا: روح الأرض الفالنسية
الباييّا.. الطبق الأكثر شعبية في جميع المملكة الإسبانية على أرض شبه الجزيرة الإيبيرية.. اسمٌ يتجلى في جوهر وتاريخ منطقة فالنسيا، لينطلق بعدها ليبهر أذواق العالم أجمع. ولكن، ما الذي يجعل من الباييّا رمزًا قويًا في المأكولات الإسبانية؟ إن سر الباييّا يكمن في أصلها المتواضع وغنى مكوناتها الذي يعكس ارتباط أهل فالنسيا بأرضهم وبحرهم. يتكون هذا الطبق التقليدي من الأرز والزعفران والمأكولات البحرية والدجاج والأرانب والخضروات الطازجة، ويُعد تحضيره طقسًا مقدسًا.
الباييّا ليست مجرد طبق، بل هي حدث اجتماعي، وذريعة لجمع العائلة والأصدقاء في مأدبة حول النار، يتبادلون القصص والضحكات. لقد استمر هذا الطقس المتمثل في إعداد الباييّا في الهواء الطلق عبر القرون، ليصبح جزءًا من التراث الثقافي الفالنسي. يمكنك صديقي القارئ المثقف الجميل -باعتبارك محبًا للثقافة- أن تشعر كيف أن كل ملعقةٍ من الباييّا تعيدنا إلى حقول الأرز في أرض "ألبيفيرا"، حيث يمتزج عبق الرياح مع رائحة الأرز المتناغمة.
-
الكشري: جوهر الشارع المصري
إذا كانت الباييّا الأوروبية تأخذنا إلى حقول الأرز في فالنسيا، فإن الكشري يعود بنا إلى الشرق العربي في أفريقيا، ويدعونا للتجول في شوارع قاهرة المعز النابضة بالحياة، حيث يمتزج عبق هذا الطبق المتفرد من الأرز والعدس والحمص والمعكرونة بنبض الحياة اليومية. يُقدَّم الكشري في أكشاك الشوارع والمطاعم البسيطة، ويعكس تنوع تلك الثقافة المصرية. يُقال إن أصوله تعود إلى التجار والمهاجرين الذين جلبوا مكونات ووصفات من الهند والمنطقة المتوسطية إلى ميناء الإسكندرية.
الكشري هو احتفاء بالبسطاء، طبقٌ يجمع بين مكوناتٍ بسيطة في تناغمٍ فريد من النكهات والقوام. في مصر، تناول الكشري مع الآخرين هو فعلٌ يعبر عن الوحدة، والجلوس جنباً إلى جنب للاستمتاع بسخاء الأرض ومهارة الطهاة الشعبيين. إنه، في جوهره، رمزٌ للمقاومة الثقافية المصرية، ودليلٌ على قدرة الشعب على التكيف والحفاظ على تقاليده وسط عالمٍ متغير.
-
أمريكا اللاتينية: ثراء المأكولات في العالم الجديد
في القارة اللاتينية الواسعة، تعكس أيضًا المأكولات تاريخًا غنيًا ومعقدًا، يدمج التأثيرات الأصلية والأفريقية والأوروبية، مما أنتج تنوعًا فريدًا من الأطباق. لكل بلدٍ في أمريكا اللاتينية كنزه الغذائي، لكن جميعها تشترك في احترام الأرض وخيراتها. السيفيتشي البيروفي، على سبيل المثال، يُقدَّم ببساطته ونضارته كتحية لساحل المحيط الهادئ، حيث يُطهى السمك بحموضة الليمون ويُقدَّم مع البصل والفلفل الحار ونبتة الكزبرة الخضراء.
في المكسيك، حظيت المأكولات التقليدية باعترافٍ من اليونسكو كتراث ثقافي غير مادي، وليس من الصعب فهم السبب. أطباقٌ مثل التاكو، والمولي بوبلانو، والتاماليس، هي نتاج قرون من المعرفة الطهوية، تجمع بين المكونات الإسبانية والتقنيات الأصلية. إن تذوق الطعام في أمريكا اللاتينية هو تجربة فريدة للتعمق في قرونٍ من التاريخ، واكتشاف لثراء أراضيها وإبداع شعوبها البسيطة.
لا يقتصر دور المأكولات على تعريفنا بذواتنا وماضينا، بل يمتد ليشمل قدرتها على ربطنا بالآخرين. عندما يتذوق الإسباني الكشري المصري، أو يجلس البيروفي ليستمتع بالباييّا، ينشأ حوارٌ ثقافي، وتبادلٌ للتجارب يتجاوز الكلمات. هذا التبادل الثقافي من خلال الطعام هو فعلٌ من الفهم والاحترام للآخر، وطريقة لتقريب المسافات بين الشعوب. فمن خلال تذوق وإعداد أطباقٍ من ثقافاتٍ أخرى، يمكن للأفراد أن يفهموا ويقدروا تاريخ وعادات شعوبٍ أخرى، مما يُعزز الفهم المتبادل. فطبق طعام بسيط يُمكن أن يكون خريطةً ترشدنا عبر المشاهد العاطفية والثقافية لمجتمع ما.
المأكولات التقليدية هي خيطٌ شهي يربط الإنسانية ببعضها. من الباييّا التي تُطهى على نارٍ هادئة في فالنسيا، إلى الكشري الذي يُقدَّم في شوارع القاهرة، كل طبقٍ هو صفحة من كتاب لا ينتهي. وكمحبٍ للثقافات، أؤكد لك صديقي القارئ المثقف الجميل أن كل لقمة تُقربنا لفهم جوهر الشعوب، أفراحها، أحزانها، وكفاحها. إن الاحتفاء بالتراث الغذائي هو اعترافٌ بأن في كل طبقٍ هناك قصة، وإرث يستحق أن يُحفظ ويُشارك مع العالم.
صديقي القارئ، في المرة القادمة التي تجلس فيها إلى المائدة، تذكّر أنك تتذوق تاريخ شعب، وأن في كل قضمة يختبئ جزءٌ من روح الإنسانية.
|