القاهرة 17 اكتوبر 2024 الساعة 01:11 م
د. حسين عبد البصير
علم المصريات هو أحد أقدم وأهم فروع علم الآثار، حيث يركز على دراسة الحضارة المصرية القديمة، بما في ذلك اللغة، والثقافة، والفن، والديانة، والأنساق الاجتماعية والسياسية. يعود اهتمام العالم بمصر القديمة إلى فترات مبكرة من التاريخ، لكن علم المصريات كما نعرفه اليوم بدأ يتطور بشكل حقيقي في القرن التاسع عشر، مع اكتشاف حجر رشيد الذي كان المفتاح لفهم اللغة المصرية القديمة.
عندما فتح نابليون بونابرت مصر عام 1798، جاء معه فريق من العلماء والخبراء الذين جمعوا ودرسوا العديد من الآثار المصرية. أثار ذلك الحدث اهتمامًا واسعًا في أوروبا بمصر القديمة، وأدى إلى نشر كتاب "وصف مصر" الذي كان من أولى المحاولات المنظمة لتوثيق وتفسير الآثار المصرية. ولكن الحدث الأكثر أهمية في تطوير علم المصريات كان اكتشاف حجر رشيد في عام 1799. أتاح ذلك الحجر، الذي كان يحتوي على نص بثلاث لغات: الهيروغليفية والديموطية والإغريقية، لعلماء الآثار مثل الفرنسي جان-فرانسوا شامبليون فك رموز الكتابة الهيروغليفية، مما فتح الباب لفهم أعمق للحضارة المصرية القديمة.
مع بداية القرن التاسع عشر، شهد علم المصريات تطورًا كبيرًا بفضل الاكتشافات الأثرية الكبيرة في مصر. قام علماء مثل شامبليون بدراسة النصوص المصرية القديمة وترجمتها، مما سمح لهم بفهم كيفية تنظيم المجتمع المصري القديم، وديانته، ونظام حكمه، وحياته اليومية. أدى ذلك الاهتمام إلى ظهور علماء وآثاريين من مختلف الدول الأوروبية مثل بريطانيا، وفرنسا، ألمانيا، وإيطاليا، حيث عملوا في البعثات الأثرية وحفروا في مواقع مهمة مثل الأقصر، والكرنك، وسقارة، والجيزة.
خلال القرن التاسع عشر، بدأت مصر تصبح وجهة رئيسة للباحثين والمغامرين الأوروبيين. أسس علماء مثل أوجست مارييت المتحف المصري بالقاهرة في عام 1858، وأسسوا أول مدرسة لدراسة الآثار في مصر، مما أدى إلى زيادة الاهتمام الأكاديمي والبحثي بمصر القديمة. كما ساهمت الاكتشافات الكبيرة مثل اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في عام 1922 على يد هوارد كارتر في زيادة الاهتمام العالمي بمصر القديمة، خاصةً مع الثروات الذهبية الهائلة التي عُثر عليها داخل المقبرة.
في النصف الأول من القرن العشرين، شهد علم المصريات تطورًا علميًا كبيرًا بفضل التطورات التكنولوجية التي سمحت للعلماء بدراسة الهياكل المعمارية والنصوص القديمة بدقة أكبر. في تلك الفترة، بدأت الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في العالم الغربي بتدريس علم المصريات كفرع مستقل من علم الآثار. ومع ذلك، كانت هناك انتقادات متزايدة بأن علم المصريات كان متمركزًا بشكل كبير في الغرب، مع تجاهل نسبي للعلماء المصريين وأصواتهم في دراسة تراث بلدهم.
بدأت الأمور تتغير تدريجيًا مع حصول مصر على استقلالها في منتصف القرن العشرين. بعد الاستقلال، تولت الحكومة المصرية مسؤولية إدارة المواقع الأثرية ومجموعاتها، وقامت بتشجيع العلماء المصريين على المشاركة بشكل أكبر في استكشاف ودراسة تاريخ بلدهم. كما ظهرت مؤسسات بحثية جديدة مثل المركز المصري للآثار الذي ساهم في تدريب جيل جديد من العلماء المصريين.
في العقود الأخيرة، شهد علم المصريات اهتمامًا متزايدًا على الصعيدين المحلي والعالمي. أصبح علم المصريات مجالاً متقدمًا يجمع بين الأدوات الأثرية التقليدية والتكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك التصوير ثلاثي الأبعاد، والتصوير باستخدام الأشعة تحت الحمراء، والتنقيب الجيولوجي، مما يسمح بفهم أفضل للمعالم القديمة التي كانت في السابق غير قابلة للوصول أو الفهم الكامل.
يعد أحد التطورات الحديثة المهمة في علم المصريات هي الشراكة المتزايدة بين المؤسسات الغربية والمصرية. في السنوات الأخيرة، شهدنا زيادة في التعاون بين الجامعات المصرية والغربية، ومشاركة أكبر من قبل العلماء المصريين في الحفريات الدولية، والبحث العلمي، والنشر الأكاديمي. تعزز هذه الشراكات من تبادل المعرفة والخبرات، وتضمن أن يظل المصريون في طليعة استكشاف وفهم تراثهم.
كما شهد علم المصريات تغيرًا في الطريقة التي يتم بها فهم الحضارة المصرية القديمة. بعد أن كان يركز في السابق على الأسرات الملكية والمعابد الضخمة، بدأ الباحثون في العقود الأخيرة يهتمون أكثر بالحياة اليومية للمصريين القدماء، وكيف كان يعيش عامة الناس، وما كانت طبيعة حياتهم الاقتصادية والاجتماعية. وساعد ذلك التحول في تقديم صورة أكثر شمولية وتفصيلية عن الحضارة المصرية.
ومن الجدير بالذكر أن هناك جهودًا متزايدة لجعل علم المصريات أكثر شمولية من حيث المشاركين والمنظورات. لقد كان علم المصريات لقرون مجالاً يهيمن عليه العلماء الأوروبيون والأمريكيون، ولكن في الآونة الأخيرة، بدأت الجامعات والمؤسسات في مصر والدول الأخرى بالشرق الأوسط وأفريقيا تلعب دورًا أكبر في هذا المجال. كما أن هناك دعوات متزايدة لعرض التراث المصري بطريقة تحترم الثقافة المحلية ولا تستغلها من أجل السياحة فقط.
من التحديات التي تواجه علم المصريات اليوم هو الحفاظ على المواقع الأثرية المهمة. مع تزايد التنمية العمرانية في مصر، وارتفاع منسوب المياه الجوفية، والتغيرات المناخية، تواجه العديد من المواقع القديمة خطر التدمير أو التدهور. لذلك، يعمل علماء المصريات مع السلطات المصرية والمنظمات الدولية للحفاظ على هذه المواقع وتوثيقها باستخدام أحدث التقنيات، مثل المسح الجوي والليزر ثلاثي الأبعاد، لضمان بقاء التراث المصري للأجيال القادمة.
إن علم المصريات هو مجال متعدد الأوجه يواصل التطور. بينما يظل الغرب يلعب دورًا مهمًا في هذا المجال، فإن هناك تحولاً متزايدًا من خلال قيام العلماء المصريين بشكل أكبر في دراسة تراثهم. مع تقدم التكنولوجيا وتزايد التعاون الدولي، من المرجح أن يستمر علم المصريات في كشف أسرار جديدة حول واحدة من أعظم الحضارات في التاريخ، مع السعي المستمر للحفاظ على هذا التراث الثري في وجه التحديات الحديثة.
|