القاهرة 15 اكتوبر 2024 الساعة 11:53 ص
بقلم: د. هبة الهواري
دمعة نبتت في زاوية حدقتها، ميل رأسِها في انكسارٍ يفطر القلوب، خاشعة على حافة الوجود، تراودها الصبابات عن ذاتِها، رهيفة على بوابات المدن وواحات الفراق، تحوم حول الحمى وظلها منذور للرحيل وتنسكب ترسم شجنَ الموانئ القلقة، وتصور التقاءات الشهبِ وارتطامها الفذ، تذكر عبور النهر إلى حيث جزيرة الوردات وكانت تخشى الماء،عقد العقيق الظمآن وضفيرتيها اليتيمتين وسلام العاشقين. في رحلتنا إلى الأقصر كان بيني وبينها جدارٌ رهيفٌ، شهدتُ تطوافها وعناصرها التي تنثرها في حضن الشمس وهي تتشكلُ وتنموبين يديها: كتابٌ من وصايا جحوتي، طيرٌ حكيمٌ وذلك القرد الوقور، فتاةٌ وولد، يسكنون معها ويبوحون لها بالسرِ القديم،ثم تعود تلملمها عند الغسق وتحتضن آلام الخذلان العظيم، يا للدهشة الكبرى التي تتولد كل يوم وهي تخلد في تصاويرها ظل المدينة المقدسة.
تتجسد في لوحتي رندة فخري تلك البنية الغرائبية التي تمتزج فيها الكائنات ويسود سلامٌ عجيب، منبته أمان قديمٌ كان يسكن العالم قبل أن تلوثه الجراح، تلك الحالة الوسيطة الموجودة في منطقة الما بين أي ما بين الواقع والخيال في لوحاتها، الحضور للجسد الإنساني والغياب لتلك القوى المهيمنة التي تصنع كل تلك المفارقات التي تصورها رندة، الأصل الذي ترتشفه من دراساتها المتعمقة للطبيعة والحيوانات والنباتات ودروس التشريح الرصينة والصورة التي تصنعها في خيالها وتبنيها في تراكيبها الفذة وثنائياتها المدهشة، ذلك الفتى والشبح، النور والظل، ذلك المكان الغامض الذي تلاشت معالمه وذابت في تلك الأوراق المزركشة (الديكوباچ)التي مزجتها رندة مع المسطح التصويري والتوال عن طريق معالجات تحضيرية سابقة والزمان المعلقُ في البين بين، تلك المنطقة الحدودية الغائمة بين عالمين.
والفنانة رندة فخري قادرة على أن تجعل شخوصها حرة طليقة مهومة في حالة طيفية أوشبحية، غريبة في سياق مألوف تبدو كصور خاصة تتحدى الافتراضات المتعلقة في أذهاننا بالحدود وكذلك الهويات المتعددة التي تعارفنا عليها، وتنفذ ذاتها المبدعة إلى العناصر وتنسج منها علاقات جديدة تخضع لنواميس عالمها الفريد، فتخلق رندة المفارقة التي تفجر الطاقات التعبيرية للوحة لديها فهي تبني عالماً درامياً، يرتكز أساساً على تحقيق العلاقة الذهنية بين تلك المخلوقات، وتصدر تلك المفارقة أساساً عن ذهن متوقد، ووعي شديد للذات بما حولها، يتولد الشجن في إيماءة الرأس في لوحة الفتاة والقرد الذي يرمز للمعبود جحوتي في الميثولوجيا المصرية القديمة، واختفاء ذراعها اليسرى في فراغ اللوحة بين الوردات الزخرفية المتكررة التي تشكل خلفية ممتدة في عمق الفضاء، وهي تتلقى القرد ليستقر في سلام على غصن شجرة منبتة، بينما يدها الأخرى ذات القفاز ترتاح فوق يده، حيث تصور مستويين للمعنى في لوحتها وتدفعنا نحو إدراك الحقائق والتناقض بينها، تلك الفتاة ذات القناع المصنوع من الأصباغ والمساحيق كوجه مهرج السيرك يخضب أنفها لوناً أحمر محتقن وتلوح في عينيها المكتحلتين علامات الألم العميق، ترتدي قفاز المهرج الذي يأتلف مع صورة جحوتي الحكيم وقد تجلى على هيئة قرد البابون.
كما أعادت رندة تنظيم عناصرها التي اقتطفتها من الطبيعة ومن رموز الميثولوجيا المصرية القديمة، حيث يبدوالمعبود جحوتي في هيئة طائر أبي منجل ويصاحبه في لوحتها الثانية صبيٌ ذوملامح نوبية يحمل بين يديه سفر الوصايا التي تركها الحكيم لترتحل عبر الزمان، حيث إن إعادة التنظيم مع إحكام التناغم التشكيلي لتلك الروافد الثلاثة الرمز الميثولوجي لجحوتي وسفر الوصايا الحكيمة والعنصر البشري والحيواني والتكوين الجديد للنسيج المعاصر الذي تضم فيه كائناتها وتستنطقها بما تريد أن تقول.
في مقامٍ من الوعي الفائق النشط، ومهارات صياغية تشكيلية تتبدى بين التحريك والقلقلة في إمساك اليدين المختفيتين في القفاز بالكتاب والتناثر والتكثيف البارع في الزهور والطائر الصغير الذي يشاهد المنظر، وهكذا يلتقي فن التصوير عند رندة من حيث هو إبداع بتلك الطبيعة الحلمية التي تتسم بالإيقاع المنتظم في خلفية الديكوباج الممتدة، والجرعة المكثفة المؤلفة من ثلاث كتلاتٍ مهيمنة على المشهد، والتنشيط المحرك في لفتة رأس الصبي، والعيانية /المفهومية معاً التي تتأكد في إتقان تصوير وتشريح الجسد البشري والطيري بصورةٍ باهرة تتحدث رندة فخري لغة ممتلئة،إشارية، تخرج عن الثابت في أساليب الربط وتكوين العلاقات ..كل لمحة، كل جزء من مكونات تلك البنية له وظيفة،حتى الصمت وأماكن الفراغ اللوني في اللوحة لها دور، والقصدية في صوغ المادة في هارمونية تشمل النسيج كله حتى أننا لا نشعر بعملياته ومراحله المجهدة والتي تذكرنا بمقولة يونج عن الإبداع حيث هو بديل كشفي وثوري للواقع تخلقه تلك الذات المبدعة.
في معرضها الذي منحته الفنانة رندة فخري عنواناً جاذباً مثيراً للشجن والتساؤل وهو" مرافئ"، نلتقي بعالم جديد تخلقه رندة عن طريق صوغ كائناتها في تركيبات فريدة وسياقات بالغة الطزاجة،حيث البناء محكمٌ متماسكٌ، والقدرات الفائقة على التشكيل، فتيات حزينات يرفلن في الشجن، الأقنعة والعذابات والأغطية للرأس والقفازات، الفتاة ذراعاها منعقدتان في مواجهة العالم، تلك الأقبية الصارمة والعتبات التي يتدفق عندها الوجود الصحو، الهياكل المعمارية التي تؤطر الزخارف الهندسية بين شجو وحنين وصرامة، العيون التي تغرق في الغموض،المعاني البعيدة المفعمة بالألم والأمل، لقاءات الأضداد الهادرة في مرافئ الشجن، صراعات بناءة، ذلك الصمت العامر بين الكائنات، المشحون بالطاقات، السكون الممتلئ بالخلق.
حيث تمتلك رندة ما أطلق عليه جاستون باشلار: (سعة التركيب) حيث تمتلك الذات المبدعة الغنائية أن تقفز قفزات فارقة، أن تحلق حيث تستطيع أن ترى الكون وتستحضر وحدة الوجود، حيث تضم كل تلك الكائنات بشكل متناسق متناغم على الرغم من أنها أتت بها من مصادر بالغة التعقيد والاختلاف وربما التنافر أيضاً. تلك الذات لها سعة التركيب، فتجد الروح وجودها التركيبي، حيث تتجلى (إمكانات التشكل بلا حدود) فالقلب ينغمر في افتتان منتشٍ وكأن العالم كله قد اختفى فجأة ثم خلق من جديد، قوة الكلمة المبدعة، وذلك الاتساع الحميم حيث يمتد الكون بلا حدود في خيال رندة.
حين تبدأ في إبداع المكان الذي يحيطنا بحضورات لا حصر لها، ثم تشرع في تكوين وبناء العلاقات التي تحكم تلك الكائنات. تتجسد في لوحات رندة فخري تلك البنية الغرائبية التي تمتزج فيها الكائنات ويسود سلامٌ عجيب، منبته أمانٌ قديمٌ كان يسكن العالم قبل أن تلوثه الجراح، تلك الحالة الوسيطة الموجودة في منطقة الما بين أي ما بين الواقع والخيال في لوحاتها، الحضور للجسد الإنساني والغياب لتلك القوى المهيمنة التي تصنع كل تلك المفارقات التي تصورها رندة، الأصل الذي ترتشفه من دراساتها المتعمقة للطبيعة والحيوانات والنباتات ودروس التشريح الرصينة والصورة التي تصنعها في خيالها وتبنيها في تراكيبها الفذة وثنائياتها المدهشة، ذلك الفتى والشبح، النور والظل، ذلك المكان الغامض الذي تلاشت معالمه وذابت في تلك الأوراق المزركشة (الديكوباچ) التي مزجتها رندة مع المسطح التصويري والتوال عن طريق معالجات تحضيرية سابقة والزمان المعلقُ في البين بين، تلك المنطقة الحدودية الغائمة بين عالمين.
|