القاهرة 15 اكتوبر 2024 الساعة 10:49 ص
بقلم: د. هويدا صالح
للوهلة الأولى حينما اطلعت على العنوان "تاج شمس" لرواية هاني القط، لم يتبادر إلى ذهني أن " تاج شمس" اسم بلدة معزولة عن العالم، بلدة متخيلة ربما، وليست متموضعة في زمان ومكان معينين. لقد راهن هاني القط على تخييل الزمان والمكان ليسقط على الواقع، لنرى شخصياته، التي منحها بطريقة ما بعدا أسطوريا، لنراها في الواقع، قد تحمل نفس همومنا ونفس تطلعاتنا.
إن شخصية الجليلة التي يقع منزلها على ربوة عالية، تجلس على كرسي قديم، قدم الزمان، يقصدها الجميع طلبا للعطاء أو طلبا للتبرك، منحها الكاتب رمزية خاصة، وحملها بحمولات ثقافية كثيرة. فكل مجتمع ربما يتمنى أن تكون لديه "الجليلة" وكأنه رفضا للمجتمع الأبوي بحثا عن المجتمع الأمومي لتصبح رمزا للسلام والمحبة كمخرج إنساني لكل المآسي التي نعانيها في الواقع البائس. وحين تذهب جليلة، تأتي فرحة لتكمل الدور.
إن تاج شمس بلدة رغم عدم تعينها إلا أنها يحكمها دوما الغرباء القادمين إليها، ينتصرون فيسودون، ينهزمون، فيذهبون ويأتي غيرهم، ورغم الرحيل والبقاء والتغير والثبات إلا أن البلدة ستبقى، وستبقى الأم التي ترعاها، تذهب جليلة، فتأتي فرحة، لا يهم، المهم أن ترعى البلدة وتحافظ عليها.
إنها رواية أشبه برواية الأجيال، فتتعاقب الأجيال وتتبدل الأحوال، والصراع على السلطة لا يتوقف، فلكل قائم على كرسي الحكم ذلة توقعه، ليأتي غيره، وربما يزول هو الآخر بعده بقليل، لكن يظل حلم أهل تاج شمس هو انتظار المستبد العادل، الحاكم العادل حتى لو لم يمنحنا مساحات التعبير عن الحرية، لكنه أبدا لا يأتي؟ فهل نلوم الجماهير الغفيرة المستسلمة للواقع الأليم أم نثورها حتى تخرج كما العنقاء من تحت الرماد لتتخلص من الظلمة والفسدة والقتلة وتضع على سدة الحكم رجلا عادلا ولو كان مستبدا؟!
إنها رواية المصائر التي يتم تشكيلها بحكمة، ليختبر الكاتب مقولات العدل الاجتماعي والعدل السياسي، لكن تسقط أمام حلم انتظار العدل كل الأشياء، لا محالة سوف يتحقق الحلم، حتى لو لم يكن في زماننا الحاضر، قد يأتي اليوم الذي يتحقق فيه، هكذا تواصل الرواية الاشتغال على تيمة الانتظار.
رغم أن الرواية كبيرة وتتشعب فيها الخيوط الدرامية والتقاطعات التراجيدية ما بين رحلات الصعود والسقوط إلا أن الكاتب لم يبروز لنا شخصيات رئيسية، بل جعل من كل الشخصيات شخصيات رئيسية تتصارع من أجل الوجود. إنها قضايا إنسانية تخرج من سمة المحلية إلى فضاء العالمية، لذا ربما اختار الكاتب ألا يعين أو يحدد الزمان والمكان، بل جعلهما مبهمين حتى يصبح حرا في طرح قضاياه التي منحها صفة الكلية.
تأتي شخصية قنديل التي منحها الكاتب بعدا صوفيا لتعبر عن تغير المصائر في دراماتيكية أقرب إلى التراجيديا، فقد قطع شوطا كبيرا من حياته وهو يسير في طريق الضلال، ثم ينقلب الحال، فيتعرض لحادث الوقوع أسير القبر، يحاول الخروج، فتتلبسه حالة من الرعب القاتل، فيشعر بالخوف من ذلك المصير، ثم يخرج من المحنة قويا وقادرا على أن يكون له الدور الكبير. إنها لعبة المصائر الدرامية، فكما انقلب الحال بقنديل، لتتغير الأحوال معه، ينقلب كذلك الحال بمختار الذي بدأ صالحا، ليتغير الحال، فيسير في طريق الضلال. إنها لعبة المصائر التي تتلاعب بالشخصيات ما بين النهوض والسقوط، القيام والانهيار، لنرى الإنسانية متجلية، كل شيء ونقيضه، الخير والشر، العنف والرحمة، الفساد والصلاح، العدل والظلم، كل شيء يكشف ضعفنا الإنساني عبر صفحات الرواية.
تظل اللمحة الصوفية والأسطورة والرمزية هي وسائل الكاتب للإسقاط على الواقع وكشف أيديولوجية الاستبداد التي لا ترى الشعب يستحق أن نتوقف أمام مطالبه ورغباته، بل تتصرف أيديولوجية المستبد حسب ما يريده ذلك المستبد، يفعل ما يريد وما يشاء دون الالتفات إلى الشعب ورغباته ومطالبه.
شعرية العالم في "تاج شمس" حينما نقرأ جملة أن رواية ما هي رواية شاعرية أو تمتلك شعريتها الخاصة قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن المقصود هنا هو شعرية اللغة، لغة الرواية، لكن الحقيقة أن الشعرية هنا تأتّت من شعرية الرؤية، رؤية العالم التي تراهن على كشف القبح والظلم والاستبداد والتي تتطلع في ذات الوقت إلى العالم المغاير، عالم يسوده الجمال والعدل والديمقراطية.
|