القاهرة 08 اكتوبر 2024 الساعة 11:00 ص
قصة: عمر أبوالقاسم الككلي
لم يتمكن، في البداية، من ضبط المنظر. ظل يحرك رأسه، إلى فوق وإلى تحت، ببطء حتى تمكن من حصر وجه المرأة فى الشق الأفقى الضيق، الذي يفصل بين لوحي حديد من بين بضعة ألواح تسد النافذة.
بين عينيه وألواح الحديد، مُشَبَّك معدني يمنع تسلل الحشرات. على بعد حوالي ثلاثة أمتار من النافذة، يوجد سياج مشبك يسيج حديقة، يبدو له قسم صغير منها مليئا بالنباتات الشائكة، عندما يوجه بصره إلى أسفل، من خلال شق آخر أوسع من الأول بكثير يقع بين آخر لوح وقاعدة النافذة.
عليه، إذن، أن يحافظ على وجه المرأة محصورا في الشق الضيق ويتأمله من خلال مانع الحشرات وسياج الحديقة غير المزروعة، مادامت المرأة جالسة، أما حين تنهض فلن يقع السياج بين مسار بصره ووجه المرأة.
لم يكن وجه المرأة، رغم وقوعه في مرمى النظر، يبدو له منه سوى نصفه الأيسر (الواقع في الناحية اليمنى بالنسبة إليه) بسبب أنها تمسك، في مستوى وجهها، طفلا صغيرا تقوم بمداعبته.
فى مواجهة المرأة، التي إما أنها تجلس القرفصاء، أو تقتعد شيئا لا يزيد ارتفاعه عن شبرين، يقف رجلان (حتى الآن لا يصدان نظره عن وجهها) يتبادلان الحديث معها.
بعد أن خفضت مستوى الطفل قليلا، صار بإمكانه مشاهدة وجهها بالكامل. كان وجهها بيضويا ومتألقا ومعتنى بزينته. مفرق شعرها، الواقع في منتصف رأسها تماما، يبدو له واضحا جدا. شعرها كان فاحما وناعما، وكان، بسبب النعومة ونوع التصفيفة، ملتصقا بجانبي الرأس، ولا بد أن نهاياته تتجمع في لمة، أو ضفيرة، أو خصلة واحدة أسفل مؤخر الرأس. لذلك لم يكن الشعر يخفي أي جزء من الوجه.
وهى تبادل الرجلين الحديث والابتسام، كانت أسنانها تبدو بيضاء لامعة.
أحس أنه يجب أن يعلن عن وجوده. أصدر صفيرا مشاكسا. لاحظ حركة جسدي الرجلين وهما يستديران فجأة باحثين عن مصدر الصوت. حرك وجهه حتى يتمكن من رؤية وجهيهما. كان أحدهما، يبدو أنه زوج المرأة، يملك وجها (بدا له) صفيقا. كان شعره الأحمر ممشوطا إلى الخلف ومنفوشا، وكان يرتدي نظارة غامقة وسترة غليظة ذات لون أقرب إلى النحاسي، ظل يبحث عن مصدر الصوت بحركات عصبية. كان الآخر أقل اهتماما وطولا، وأكثر امتلاء وأصغر سنا، ومرتديا لباسا صيفيا. لم يبد على المرأة أنها اهتمت كثيرا. عندما لم يتبينا مصدر الصوت، استدارا ناحية المرأة.
رغم أن المرأة كانت تضحك وتبتسم ابتساما عريضا بفمها الكبير، وهي تتحدث بنشاط، إلا أنه أحس أن شيئا من الكدر يخالط كل ما يصدر عنها.
لم يكن كلام المرأة، ولا الرجلين، واضحا (لأنه لا يشاهد الأرض بشكل جيد فإنه لا يستطيع تقدير المسافة التي تمتد فاصلة بينه وبين المرأة والرجلين. لكنه لا يعتقد أنها تتعدى العشرين مترا، بأي حال) حين رفعت المرأة صوتها، استطاع أن يميز جملتين كاملتين. قالت المرأة متسائلة:
- لم يعودوا يضعون الأصفاد؟
لم يميز رد الرجلين. قالت المرأة :
- المرة الماضية لم تكن موضوعة.
انحنى الرجل (الذي قد يكون زوجها) يداعب الطفل الذي تمسكه في حضنها. انحجب وجه المرأة. امتعض. حينما عاد الرجل إلى الوقوف، ظلت ساقاه تحجبان وجه المرأة. ازداد امتعاضه. انتظر أن يتحرك الرجل قليلا. أوشك أن يصيح:
- إيه! تحرك إلى أحد الجانبين!
رأى أن ذلك طيش (لا مبرر له).
لاحظ وجود طفلة صغيرة تلعب بالقرب من المرأة والرجلين. وبسبب صغر جسمها، كانت تبدو له بشكل عام. لأنها كانت كثيرة الحركة، لم يتمكن من رصد ملامحها. كل ما رصده، هو أن جسدها صغير ومكتنز، وأنها ترتدي فستانا صيفيا بدون أكمام ذا لون أحمر ضارب إلى الوردي، وأنها تلعب بشيء (رجح أنه منديل ورقي) أحمر ضارب إلى البنفسجي. بدت له كزهرة لاهية.
عاد إلى المرأة والرجلين. بوسعه الآن أن يرى وجه المرأة بكامله.
مرة أخرى انحنى الرجل. لكنه، هذه المرة، أخذ الطفل في حضنه.
عندما أمسكت المرأة، برفق، معطفا كانت تضعه على ركبتيها، توقع أنها تستعد للنهوض. ربما لأنها لم تكن مستريحة في جلستها، وأن هذه الجلسة، إذ تطول، تسبب تعبا في الفقرات السفلى من العمود الفقري والكتفين، فقد نهضت المرأة بحيث بقيت، قليلا، منحنية قبل أن يستقيم جذعها. انبهر بامتلاء صدرها الذي تبين له أثناء حركة النهوض.
- أوو!!
ابتسم. تخيل صديقا معينا موجودا فى ناحية أخرى من المبنى. فى وضع مثل هذا كان سيصح :
- OH !! MY GOD!!
ظل يحرك رأسه في محاولة لتمشيط كل ما يواجهه من جسد المرأة بنظره. اهتز لتناسق الجسد. مرت بيديها على شعرها وبدت وكأنها تعدل من وضع مثبت شعر في مؤخر الرأس. خيل إليه أنه لاحظ توتر وتصلب النهدين تبعا لحركة اليدين. بدأ الرجلان والمرأة السير (الرجلان متجاوران في المقدمة، خلفهما المرأة وإلى جانبها، ولكن متأخرة عنها قليلا، الطفلة) بحيث أنهم سيمرون على بعد حوالي ستة عشر مترا، من جهة الزاوية اليسرى للنافذة، وسيتمكن، لبرهة وجيزة، من رؤية القامات من مسقط جانبي، ومن خلال المشبك وسياج الحديقة عندما يستدير ليتصل بامتداد الجدار الذي تقع به النافذة، بالكامل، بفضل شق عمودي أوسع من الأول بما يزيد عن الضعف.
حينما وقع جسد المرأة في متناول بصره، لم يبد له طاغيا ومتناسقا بالدرجة التي قدرها. بل بدا جسدا عاديا.
ترك النافذة واستلقى، منكسرا، على السرير الذي كان متطاولا على نهايته.
|