القاهرة 08 اكتوبر 2024 الساعة 10:29 ص
بقلم د. هبة الهواري
تبدو إيفيلين كعاشقة صغيرة على صهوة المدى، يضنيها شجن قديم، تظن أن العالم يجب أن يكون طيباً كعينيها، تترك خصلاتها للريح عل عطورها توقظ الغافلين، تعلق في جيدها مفاتيح المروج، وفي كل يوم تنبت لها ريحانة خجلى في ظل الجدار، وعلى مقربة من أذنيها خلق الله الموسيقى الأولى، وحين تمس نافذة الوجد ترقص السنبلات الحبلى وتومض بذهب الشروق، حين تغني لا تحتاج للعازفين، هي تمتلك كل أسرار الأوركسترا، وتعرف ما لا نعرف مذ درجت عند النهر، فهي على علمٍ بصوت ممارسة النخلات للعشق، وهي أحب الناس لحضن الصفصافات الوحيدات، وفي تفردها الشمسي تتحرى مواعيد الرحيق، وترقب انطلاق سحر النعناع في الربيع، ومع الفجر يزورها الندى ..قبل أن يبارك الحقول ويلثم جبينها القدسي.
فتاة غضة لكن شعرها من فضة، وردة من لهب، شمس حديثة العهد بالرب رغم الألم والوعد المكتوب، تصطخب بالأمنيات، يندلع عزفها الفرحان، تلتف بغلالات مغبشة بآهات الفجر، أستار منقوشة بدقائق حنين أخضر، لا تقر في يد الانتظار، يقذفها النداء في حضن السحاب تدفق خلاصات الإنبات، تتفكك إلى نجمات مذيلة نزقة وشرائط حرير طفلة، بألوان العيد وأصوات العصافير تظل معلقة راقصة في مدار الإشراق، باقية على عهد الرحيق، تشهد جمالاً فذاً في حضرة صلوات الالتئام.
في معرضها الاستعادي "حصاد سنين العمر" والذي أقيم في قاعة آزاد بالزمالك، نرى تلك الملامح التي تميزت بها إيفيلين حيث تبدو تلك المخلوقات العجائبية التي تسبح في أعمالها، ربما كانت تعبيراً عن تأثر الفنانة القوي بفنون التراث الشعبي القبطي والإسلامي، والأجواء الأسطورية في مولد سيدي إبراهيم الدسوقي في أيام نشأتها، فكثيراً ما نجد هذه الألوان الفاقعة الفطرية في رسوم عربات السيرك والمراجيح والوشم ، والتي تتجمع سنوياً في أيام الاحتفالات والموالد، كما نشاهد في المتحف الإسلامي والمتحف القبطي بالقاهرة وخصوصاً في أعمال الخزف والنسيج الكثير من المسوخ والكائنات المخلقة من عدة حيوانات والتي كان استخدامها كوسائل تعبيرية تشكيلية بعيدة عن التجسيد والتمثيل، ولقد ترسخ في الذاكرة الشعبية تصورات تشكيلية تجسد أبطال الحكايات التي تحكيها الجدات، ويرويها الرواة عن "الغول وأمنا الغولة والعنقاء".
كذلك ذوبان الحدود بين الهيئات والأجناس كما في لوحاتها، حيث امتزجت الهيئات النباتية والحيوانية والإنسانية في وحدة لوجود الكائنات المبتهجة بالحياة والنهر والشمس ، كذلك تضفي من روحها الخلاقة عناصر حروفية لنصوص كتبتها تعبر عن تيار أفكارها المتدفق في تلك اللحظات. مما نراه خلال ارتحالنا في عالم إي?يلين عشم الله الثري الرحيب.
إن عالم الفنانة إيفيلين عشم الله لهو عالم عامر بالدهشة والطزاجة والوقوف على تجربة شاهقة من الانغماس في مجالات غرائبية هجينة تدخلنا معها في مشهدها الجليل كما يقول أستاذنا الدكتور شاكر عبد الحميد في كتابه الفن والغرابة إنه بالنسبة إلى المفكر والناقد الفرنسي المعاصر جان فرانسوا ليوتار، كان الجليل نقلة أساسية نحو الحداثة: حيث حاولت الحداثة في رأيه أن تستبعد الجميل وتحل محله نوعاً من التحرر الذي يشعر به المشاهد أو القارئ من هذه القيود الخاصة بالشرط الإنساني وتكمن الدلالة الخاصة بالجليل، في رأيه في الطريقة التي يشار من خلالها إلى حالة الشك الموجودة في العقل الإنساني و هي حالة تعبر عن هذه الحافة أو الحدية الخاصة بقدراتنا التصورية وتكشف، كذلك، عن تلك التعددية وعدم الاستقرار الملازمين للعالم ما بعد الحداثي.
لقد كان هناك ما يشبه السعي من أجل الوصول إلى القبح المثالي في الوقت نفسه الذي كان فيه أيضاً سعي مماثل محموم للوصول إلى الجمال المثالي . عبر ذلك التاريخ لعبت البنية المسخية (الجروتسكية) دوراً مهماً ومما هو جدير بالذكر هنا أنه توجد دلالات عديدة لهذا المصطلح فقد استخدم لوصف الأشكال الغريبة، مثل الكراغل Gargoyles التي كانت بمثابة التماثيل المنحوتة للشياطين المرعبة، وقد تم تشكيلها قديماً على هيئة أنابيب لتصريف المياه على واجهة المباني في القرون الوسطى و ما بعدها، و يصف كذلك السلوك الغريب والكوميديا من المستوى الأدنى، والتحقير الفكاهي، وفن الكاريكاتير الأول و بعض الأشكال أو التعبيرات التي تنتمي إلى فنون المدرسة الدادية والمذهب السيريالي في الفن بعد ذلك. كذلك ظهرت خلال العصر القوطي هذه الصور الصغيرة التي تصور رسوماً وأشكالاً إنسانية غريبة المظهر، كذلك رسم ليوناردو دافنشي أيضاً، عدداً من الأشكال الكاريكاتيرية المسخية ، و قد بدأها بدراسة لبعض الشخصيات التي كانت تبدو غريبة من حيث شكلها الخارجي. و قد اعتبر عدم الانتظام أحد تجليات الجمال ، و رسم كثيراً من الصور الكاريكاتيرية من ذاكرته، وهي الذاكرة التي تجمعت فيها صور كثير من الناس الذين كان يراهم و يلاحظهم في الشارع.
كذلك تستخدم إيفيلين تلك الآليات للتفاعل النصي بين الكتابي والتصويري وبين طبقات المعاني المترسبة عبر الزمن كعملية التحرير verbalizationيعني التحرير الكتابي لما ليس كتابياً بالأصل. وينطبق على حالة التفاعل النصي بين الأنواع أو الأجناس المختلفة، الأدبي والتشكيلي، مثلاً (صياغة لوحة كتابياً، الشعارات المرسومة التي ترمز إلى شيء ما) هنا تمنح الكتابة بعداً لفظياً أو ترجمة تحريرية لمرجع صوري .
واستخدام الخطية linearizationفالكتابة ظاهرة خطية محكومة باستمرارية السطور أفقياً كما في أغلب اللغات أو عمودياً كما في الصينية واليابانية وهنا تعمد الفنانة إيفيلين عشم الله إلى ما يشبه تسوية لعناصر النص الأصلي الذي تتناصه، وعناصر نصها التشكيلي الجديد في فضاء اللوحة وداخل حدودها المادية، وبعد هذه التسوية تستفيد من بدائل أخرى: مثل التشويش على تراتب المقاطع أو التوكيد على بعض الأسطر برسمها بحروف مختلفة مائلة أو غليظة. تلك الخلخلة التي تنفذ بها إيفيلين إلى عمق اللوحة التصويرية حتى تهتز بين يديها وتتفكك العناصر وتولد عوالم جديدة طازجة تنتمي لها وحدها.
تتجسد في عالم إيفيلين عشم الله دوماً تلك الحالة الوسيطة الموجودة في منطقة الما بين in between أي ما بين الواقع والخيال، الحضور والغياب، الأصل والصورة، الشخص والشبح، النور والظل، وهي تجسد كذلك فاعلية الخيال وتربط ما بين الزمان والمكان، الماضي والحاضر والمستقبل وهي قادرة "دوماً على أن تكون حرة طليقة مهومة حالة طيفية أو شبحية ، غريبة في سياق مألوف وكذلك حين ينبثق من روحها الظهور لصور ما في حالٍ من التجلي الكشفي الباهر، صور خاصة تتحدى الافتراضات المتعلقة بالحدود بين الكائنات والأكوان و كذلك تلك المنطقة التي تمتزج فيها الهوية المعلقة في فراغها الرحب النابض في كل لحظة، الكثيف عند كل عملية تلقي بصري حيث يتشكل دون أن يعترف بالقواعد المتعارف عليها في أذهاننا، هنا تتحول الحدود وتتغير و تهوم في منطقة شبه ظلية حول الأطراف و الحواف الخاصة بالتفكير والوعي. تلك المنطقة الشجية بين النهر والشمس بين الأطياف السابحة في الوادي وأصداء الماضي البعيد، تلك الروح الخصبة الطفولية التي تتجدد في احتفاليات الإنبات و قوة الحياة التي تصطخب بها لوحات إيفيلين.
هذه الاستراتيجيات التي تتعمدها إيفيلين في جوهرها –كما يقول لاكان- استراتيجيات لغوية وتمثيلية، استراتيجيات يستخدمها البشر كي يتحولوا من خلالها ، إلى أشخاص قادرين على النشاط والوجود داخل السياق الاجتماعي الكلي . وفي ضوء ذلك كله، لا يكون المعنى الذي تنتجه الذات –في شكل كلام أو كتابة أو لوحات - نتاجاً للخطاب الواعي الخاص بهذه الذات فقط؛ ولكنه أيضاً محصلة لمدى كبير من السلاسل الدالة من المعاني التي تعمل فيما وراء ذلك الوعي، أو بعيداً عنه، و إضافة إلى ذلك، فإن أي إنتاج للمعنى هو –في جوهره- أشبه بعملية تكوين للذات في أبهى صورها، وإنتاج لها بشكل جيد، فتتبدى لنا ذات إيفيلين المبدعة وهي في حالات من النشاط والتطور والحركة الخلابة.
|