القاهرة 01 اكتوبر 2024 الساعة 11:03 ص
سعاد سعيد نوح
يأتي كتاب "الأشياء الفريدة..العمارة والفلسفة" لبيير ميشون، الذي صدر عن مكتبة الأسرة بالقاهرة بترجمة الفنانة التشكيلية "راوية صادق"، ليكشف عما فعله المعماري الفرنسي المشهور "جان نوفيل" والفيلسوف "جان بودريار"*، فهو كتاب فريد عبارة عن حوارين لهما طابع أدبي، فلسفي جمالي، خيالي ومجرد واستلهامي، ومطول بينهما.
ينوه "نوفيل" خلال الحوار الأول، بإحدى الصعوبات الكبرى للعمارة، وهو أن عليها أن تكون موجودة وأن تنسى بسرعة في آن واحد، لذلك فإن ما يعجبه في المدن الأمريكية هو أنك تعبرها دون التفكير في العمارة، دون أن يلقى عليك عبء التفكير في هذا الجانب الجمالي الذي يحمل تاريخه الثقيل. وهو ما يبدو أنه يعود إليه بشكل آخر في الحوار الثاني عندما يقول:
"بل أعتقد أن التغير الفجائي المقبل – المعماري والحضاري – سيخص علاقتنا بالخامة. فهي ستمر عبر أنماط أخرى من الوساطة. ستتجه نحو اللامادي..سيحبذ كل ما ينحو إلى تجنب خلق شبكات ثقيلة..وسيكون على التفكير النمو في مجال الاستقلال الذاتي. الخفة..". وهي الصياغة التي يترجمها "بودريار" في عبارة واحدة: "لا أعرف إذا كان هناك دور للعمارة في هذا الأمر. ورغم هذا، أرادت أن يكون لها دور، فإن لم يكن إنسانيا، فهو على الأقل يخص فعل المساواة".
وقد تكون "الخفة" التي تحدث عنها "نوفيل" هي نفسها "الحياد" الذي يلتقطه "بودريار" خلال مقطع آخر من الحوار يرثى فيه الحياد باعتباره لم ينل أبدا سمعة حسنة، فهو ذلك الذي لا يثير الشعور، أو يعني غياب الخاصية، لأنه لا كيفي. غير أن ما نشهده هو بالتأكيد شكلا آخر منه "يظهر": "هذه المرة بالمعنى الحرفي للكلمة. بل هو لا يصنع شيئا سوى الظهور. ويتم تعريفه بمجال تتعادل فيه كل الإمكانيات الواحدة وراء الأخرى. إنه ليس مثل مجال الحياد السابق، عندما لم تتوفر له لا الخاصية ولا التميز. هنا، على العكس، لديك حياد فعال مفتوح على إمكانيات من هذا القبيل إلى حد تعادلها كلها".
هذا المحايد فلسفيا هو ما يقابله الفيلسوف بالفريد، إنه الأمر الذي لا يترك نفسه للتفسير بكل الطرق، الاجتماعية والسياسية والفضائية، بل والجمالية. وهنا يعلّق المعماري بأن الشيء كلما كان فريدا كلما كانت له فرصة أن يكون محبوبا، وفي مقطع آخر من الحوار يعيد تعريفه عبر مفهوم "الخفاء": "فإن هذا الشيء الفريد في لحظة محددة يعود إلى هذا الجانب الغامض، المبهم حتى لمن خلقه، الذي يلازمنا ويسعدنا".
إنه كذلك – معماريا - "الانحراف" الذي لا تطاق الحياة في عالمنا بدون قوته الفطرية. وهو كذلك في تصور المعماري الفرنسي العالمي "الغواية": "بمعنى ما فنقول لأنفسنا حتى لو ليس هناك وجود لمبدأ الواقع ولا لمبدأ الحقيقة من جانب من نوجه لهم الموضوع، سيحدث انحراف حتمي، وستحدث غواية". ويؤكد "بودريار" أن العمارة ليست غير فراغ للغواية إذن، هي الشيء الذي يخلق علاقة ثنائية، علاقة يمكن أن تمر عبر تجاوز وتناقض وعدم استقرار، لكنها تضع فعلا الواقع المزعوم لعالم ووهمه الراديكالي، وجها لوجه.
أمر فارق في نظر قارئ مصري كما أظن أن يعرف أن الحوار كله عبارة عن جزء من مبادرة لإجراء "مواجهة بين الفلاسفة والمعماريين" ضمن مشروع "جسور في المدنية" الذي تبناه "بيت الكتاب".
|