القاهرة 25 سبتمبر 2024 الساعة 01:14 م
كتبت: هبة أحمد معوض
"إنه لا يعرف أنه لا يعرف.. إنه لا أدري"
قيلت هذه الكلمات ذات يوم أمامي صدفة، عن شخص كثير الشك والتساؤل فيما يخص الموجودات من حوله، ولم أكن أعي معناها، لكن استرعت اهتمامي كثيرًا، إذ كانت المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذا الإنسان اللاأدري، الذي قيل عنه فيما بعد أنه ذلك الإنسان الشكاك الذي يؤمن بعدم قدرة البشر على الوصول إلى معرفة أي من الحقائق الكونية!
يبدو الحديث بالنسبة لأي مستمع كما لو كان ينطوي على شيء من العبث نوعًا ما، فإذا كان اللاأدري هو الشكاك، وكان الشك صفة طبيعية خُلق الإنسان بها، وقُدرت إليه، فهل يعني ذلك أننا خُلقنا لاأدريون يستوجب علينا الشك والارتياب في كل ما يدور حولنا؟ بالطبع لا، فالعقل الإنساني مدرك لحقيقة الموجودات من حوله، لذا فنحن بصدد الحديث عن اتجاهات وميول وليس معتقدات، كما أن الجواب إن كان بالإيجاب فسنجد أنفسنا حيال أسئلة من نوع آخر، لن نصل بإجاباتها إلى نهاية.!
إذن.. من هو اللاأدري أو الشكاك؟ وما فلسفته؟ ولماذا يرتاب البعض منه؟ وكيف يرى هو نفسه؟!
إن الشكوكية أو اللاأدرية هي مذهب فلسفي، تنبع فكرته من أن الإنسان مدرك بحقيقة وجود الأشياء من حوله، لكنه يمتنع عن وضع الأحكام بشأنها، أو الوقوف على الظواهر الخاصة بها، إذ أن القضايا الكونية بالنسبة إليه تنبع من قوة متعادلة، حيث لا يمكنه الجزم بأن الظواهر من حوله يمكن أن تكون حقيقية أو غير حقيقية، وليست الظواهر فقط، بل أيضًا يأتي الشك تجاه فكرة التسليم بوجود الذات الإلهية، إذ أن الشكاك لا يؤمن بوجود إله، وكذلك لا يؤمن بعدم وجوده، حيث الحقيقة الواضحة والثابته لديه هي حقيقة وجوده هو..
ومن هذه الفكرة تتبلور في النفس البشرية حتمية الخوف من اللاأدريين، إذ أن البعض يخاف ليس من إتباع نسق معين، بل من ظاهر الفلسفة وأنساقها عمومًا، دون الإبحار أو التعمق في فهمها، اعتقادًا منهم أن كل ما يتعلق بالفلسفة يثير الشك تجاه المعتقدات الدينية، بالتالي فهو وثيق الصلة بالإلحاد أو إنكار وجود الذات الإلهية.
ومن ثم تبدو لديهم المذاهب الفلسفية غامضة في جوهرها، لكن الحقيقة ليست كذلك، لأن كثير من المذاهب الفلسفية يمكن أن نصل من خلالها إلى التسليم بالإيمان بالله.
لذا فإن الشكوكية التي أصبحت مع تطور الفلسفة ارتيابية، قد تكون أيضًا لدى معتنقيها بداية الإيمان، لأن هناك أنواع من الشك تعمل على استفزاز العقل، الذي بدوره سيبحث عن الأسباب ويتوقف عندها ولن يتجاوزها.
من خلال هذه النقطة الأخيرة تحديدًا تتبلور لدينا تساؤلات أخرى، هل كل شك لاأدرية ارتيابية؟ وهل ينبغي دائمًا على الإنسان أن يسير وفق نسق محدد؟!
إن جوهر النفس الإنسانية هي الحقيقة الأعظم التي تستحق التدبر والتفكر، حيث لم يكن الإنسان ليدرك أنه منذ جاء إلى العالم الأرضي وقد قُدر له أن يحمل الخير والشر، والرحمة والقسوة، والشك والإيمان في آنٍ واحد، ولم تتجلى هذه الحقيقة لديه سوى بعد أن يبحر في البحث، وهذا هو الإنسان غالبًا! لا يعرف ما الذي يريد أن يريده، لكنه يعرف أنه يريد.
ومن ثم لا يسعنا القول أن كل شاك هو لاأدري، لأننا بصدد شكاك جدد، وفيما يخص النسق الإنساني، فالمخلوقات جميعهم لديهم أنساقهم التي يسيرون وفقًا لها، لكن المخلوق الآدمي تحديدًا لا يمكن أن يضع لنفسه نسق واحد، فالأفكار تتغير وتتبدل وتتشكل من جديد، وتاريخ الفلسفة نفسها يشهد على تطور الأنساق وتبدلها، فكيف بنسق الإنسان!
|