القاهرة 19 سبتمبر 2024 الساعة 04:23 م
بقلم: ماهر أحمد سليمان
"بجماليون" أسطورة إغريقية قديمة تحكي عن فنان نحات هو "بجماليون" نحت تمثالا غاية في الجمال أطلق عليه اسم "جالاتيا" ورأى فيه الكمال في الجمال والأنوثة فدعا الآلهة أن تدب الحياة في التمثال، فاستجيب دعاؤه ودبت الحياة في التمثال وتحول إلى فتاة رائعة الجمال.
استحوذت أسطورة "بجماليون" على اهتمام الأدباء المحدثين، فشرعوا يحاكونها في أعمالهم بمفاهيم وتفاسير ومناهج عديدة متنوعة. ومن أشهر الأعمال الأدبية التي تناولت هذه الأسطورة مسرحيتان أولاهما ملهاة إنجليزية ألفها الكاتب الإيرلندي جورج برنارد شو في عام 1912م.
والثانية مسرحية "بجماليون" هي إحدى مسرحيات توفيق الحكيم الذهنية كتبها عام 1940م، بعد أن شاهد فيلما سينمائيا عام 1938م يتناول مسرحية بجماليون التي كتبها برنارد شو.
كتب الحكيم مسرحيته محتفظا بعناصر الأسطورة القديمة ودمج معها أسطورة إغريقية قديمة هي "نرسيس"، مسرحية الحكيم تتناول العلاقة بين الفن والحياة، فهذا الفنان الذي انعزل في برجه العاجي، عندما تحول تمثاله الرائع إلى امرأة جميلة يتبادل معها الحب، سرعان ما اصطدم خياله بالواقع عندما ينظر إلى الجمال الذي صنعه فيجدها تمسك بالمكنسة كي تزيل الغبار الذي تراكم بالمكان وتقوم بشؤون المنزل، ويتساءل أمن أجل ذلك صنعتك، ويدرك أن هذا الجمال تحت وطأة الزمن سوف يذبل ويزول بل سوف يموت وينتهي إلى الأبد، أما عندما كان تمثالا جميلا فسوف يخلد فنه.
يتضرع بجماليون مرة أخرى إلى الآلهة لتعيد التمثال إلى سابق عهده ويتحول إلى تمثال مرة أخرى، ويبدأ الصراع داخل بجماليون بين فنه والحياة ينتهي به إلى تحطيم التمثال.
أما مسرحية الكاتب الإيرلندي "برنارد شو" فبجماليون لم يَعُد نحاتًا بل أصبح أستاذًا أرستقراطيًّا في جامعة لندن يلقى في عرض الطريق فتاة من عامة الشعب تبيع الزهور يروقه جمالها وحسن استعدادها، فيلتقطها من الشارع ويأخذ في تهذيبها وتلقينها لغة الأرستقراطية وطريقة نطقها، وما يزال بها حتى تصل إلى أرقى مستويات فتاة الصالونات اللندنية، وكأن الأستاذ الأرستقراطي قد خلق هذه الفتاة خلقا جديدا، كما نحت بجماليون في الأسطورة جالاتيا من العدم، وعلى نحو ما أحب بجماليون تمثاله لأنه من صنعه وجزء من نفسه وامتداد لذاته، نرى الأستاذ الجامعي الأرستقراطي يحب بائعة الزهور التي أعاد خلقها ويصل حبه إلى حد الرغبة في الزواج منها، ولكن الفتاة التي لم يرقها فيما يبدو تفاهة حياة الصالونات الأرستقراطية وما فيها من خزي ونفاق، ترفض هذا الزواج وتفضل أن تتزوج من سائق تاكسي تحس بأنها ستعثر معه على السعادة والتفاهم في الحياة.
وهكذا اتخذ برنارد شو من أسطورة بجماليون وعاء صب فيه فلسفته الاشتراكية، التي ترى أن الفوارق القائمة بين طبقات المجتمع ليست إلا فوارق مصطنعة يسهل تحطيمها إذا أتيحت لأبناء الطبقة الشعبية الظروف التي تمكنهم من رفع مستواهم الحضاري، كما دلّل على أن عقلية الطبقة العليا ليست أفضل من عقلية الطبقة الدنيا ولا طبيعتهم أنقى من طبيعتها، بل وفضّل في النهاية حياة هذه الطبقة المتواضعة على حياة الطبقة العليا بجعله بائعة الزهور التي تحضرت تفضل سائق التاكسي دون أستاذ الجامعة الأرستقراطي كزوج لها وشريك لحياتها.
بالمقارنة بين الكاتبين يتضح أن الحكيم احتفظ بالإطار الأسطوري وعناصر الأسطورة القديمة في صورة تجريدية جامدة، أما برنارد شو فقد تناول من خلال مسرحيته قضية اجتماعية وهي الفوارق الطبقية مع البرهان على هشاشة هذا التقسيم وهذا التفاوت وهذه النظرة المتعجرفة للطبقة الدنيا، وهو ما يناسب ميوله الاشتراكية ونضاله الحزبي والاجتماعي، ولولا أن برنارد شو قال في المقدمة إنه استوحاها من أسطورة بجماليون ما شعرنا أن هناك ثمة علاقة بين مسرحيته وبين الأسطورة.
|