القاهرة 17 سبتمبر 2024 الساعة 11:23 ص
بقلم: أمل زيادة
يتساءل البعض لماذا نحب مصر، رغم كل ما نقاسيه معها على مدار سنوات حياتنا من أزمات طاحنة قد تزعزع قواعد هذا الحب؟!
كنت أجيب إجابة فقدت معناها بمرور الوقت، وهي أننا لم نعرف غيرها وطنا، ولم نجد سواها ملاذا!
وفي أحيان أخرى ألجأ لاستخدام التعريف الأكاديمي الذي درسناه في كتب فقه القانون بكلية الحقوق، وهو أن الوطن هو كل ما يشمل من الأرض التي يعيش عليها مجموعة من الناس، ينتسبون إليها نسبة لآبائهم وأجدادهم وقبائلهم، في حين قسم آخرون الوطن لثلاثة، وطن قرار، ووطن مستعار، ووطن سُكني، يشمل أرض وشعب وحكومة.
بعيدا عن هذه المسميات التي اختلف فيها الفقهاء اصطلاحيا وقانونيا، توصلت إلى أننا نحبها حب فطري ينمو كلما كبرنا وازداد وعينا، اعتبر حبها توريطة مشروعة، مثل مشاريع الارتباط التي تجري وفقا للعادات والتقاليد، تحت مسمى "زواج الصالونات"!
بمرور الوقت نزداد نضجًا ويقينًا أن هذا الارتباط الذي أصبح عادة ما هو إلا نواة حب غير مرئي، تماما مثل خوض تجربة الحُب للمرة الأولى، وتجربة الزواج الأول، عندما تسأل الزوجة أو الزوج لماذا تؤثر بك إلى هذا الحد رغم مرارتها، كونها تجربة صادمة أدت للانفصال؟!
تكون الإجابة التي تختصر الكثير من السنوات، لأنه أول من رأت عيني وأول من تفتحت مشاعري معه، لأنه صاحب أول تجربة في حياتنا الجديدة رغم ما بها من قلة خبرة وحيرة وخوف!!
حتى تغيرت القناعات، أصبح الكون أكثر رحابة، تخطينا الحدود شرقًا وغربًا، تعرفنا على حضارات وبلاد أخرى، وأصبح لدينا حرية الانتقال للكوكب التاني!
يظل العائق الذي يعكر صفو كل رحلة جديدة، قائمة المحظورات التي ترافقنا أينما ذهبنا، التي تؤكد تميز بلدنا لحد كبير.
فمن أسعده الحظ وسافر للبلاد الأوروبية قطعا خضع لعدة نصائح تتعلق بالأمان والسلامة الشخصية، ومن سافر أبعد من ذلك حتما تم تحذيره من الآخر، ومن تودد هذا الآخر منه مهما أبدى من تعاون وسلم..
تابعت فيلم "مافيا" منذ عدة أيام، توقفت أمام مشهد عابر للبعض، لكنه راقني لحد كبير، ربما لأنه أجاب على تساؤلاتي وتساؤلات الآخرين ببساطة وعفوية وصدق.. عثرت على الإجابة التي حيرتني كثيرًا، سأل الضيف بطل الفيلم سؤالا يبدو بسيطاً: لماذا تحب أمك، رغم أنها تقسو عليك؟!
كانت إجابة تشوبها الحيرة، ليست تشككًا في قدر حب الأم بقدر المباغتة والتشبيه.. أحبها لأنها أمي!
واصل الضيف بابتسامة، أحببت أمك ليس لكونها الأفضل، ولا الأجمل، فقط لأنها أمك!
هكذا هو حبنا تجاه بلدنا، نحبها رغم كل الضيق والهموم التي تحيط بنا، نحبها رغم ما بها من تناقض، نحبها رغم ما بها من ازدحام وصخب، وضوضاء، وغلاء، وتحيز، واختلال للموازيين، نحبها لأننا ولدنا على أرضها، لأننا خلقنا ذكريات حفرت في شوارعها، نشعر بالحنين إليها عندما نبتعد عنها، أو عندما نستمع لأغنية مرتبطة بالذكرى، أو عندما نشم عطور الذكريات في مواسم الحنين..
إذا سألت أي شخص غادرها لماذا غادرتها؟ يكون بدافع البحث عن المال، وفور أن يتم تحقيق هدفه وبمجرد الوصول لغايته يعود للاستقرار والبدء من جديد ليقينه أنها أكثر الأماكن أمانا على ظهر الأرض..
هناك شيء يخص أهلها.. مهما تمكن من اليأس والحزن منهم يظلون أجمل شعب، يتخطى الصعاب بفضل دعوات الطيبين وبركة الأنبياء، شعب يتجاوز الأزمات بالسخرية والنكات، داخلهم شيء مميز ومشترك وتجمعهم الطيبة والكرم والشهامة.
لا يوجد مكان في العالم يمكنك التجول فيه حتى الفجر بأمان تام سوى مصر، خاصة الأحياء الشعبية التي لا تنام، حيث لكل شارع قصة، ولكل طريق حكاية منذ الأزل، ولا يزال يغزل العديد من الحكايا..
في مصر فقط التنزه مع من تحب له طابع خاص، فلا أنت تتجول بين جدران مبان أسمنتية تخنق، ولا أنت مقيد بأماكن محددة للترفيه، كل شارع في مصر يصلح لصنع الذكريات البسيطة، كلما كانت النزهة أبسط كلما كانت أمتع، يكفيك أن تجلس برفقة عائلتك على أي مقهى أو رصيف لتبادل الأحاديث للتغلب على الهموم..
للمرة الأولى لا أرحب باللجوء للكوكب التاني، فمن الذي يجد وطنًا بقدر تاريخ وعزة وكرامة مصر، ثم يتركها ليلجأ لأي مكان، حتى ولو كان كوكبنا التاني؟!
حفظ الله مصر وحماها للأبد، لنا، ولأحفاد أحفادنا، بل وللأبد..
|