القاهرة 17 سبتمبر 2024 الساعة 11:15 ص
بقلم: د. هويدا صالح
إن الغناء والموسيقى من القضايا التي عني بها الفقهاء قديما وحديثا، وتباينت فيها الأنظار بين مبيح ومحرم وكاره، وألفت حولها المصنفات المطولة، والرسائل المختصرة. وقد حاول محمد بن الأزرق الأنجري أن يستقصي وضعية الغناء في الشريعة الإسلامية ما بين القبول والرفض، ما بين الإباحة والتحريم، في كتابه "الموسيقى والغناء في الشريعة الإسلامية" الذي صدر حديثا عن دار رؤية للنشر والتوزيع بالقاهرة. وتأتي أهمية هذه القضية من كونها ما تزال تناقش في عصرنا الحالي، فهي قضية لم تحسم بعد، فنجد للآن من شيوخ المسلمين وعامتهم من يحلل الغناء والموسيقى، كما نجد من يحرمهما أيضا من شيوخ المسلمين وعامتهم.
ويرى الأنجري أن الفقهاء في العصور الماضية قاموا بتأليف كتب تناقش هذه القضية، فألف في إباحة الغناء الكثير من الفقهاء مثل: ابن قتيبة الدينوري، وأبو منصور البغدادي، وابن طاهر المقدسي، والغزالي، والأدفوي، وابن دقيق العيد... رحمهم الله، وكلهم من المبيحين. كما وضع بعض الفقهاء الذين حرموه مصنفات وكتب في تحريمه وكراهته، مثل : أبو الطيب الطبري، والطرطوشي، وابن الجوزي، والقرطبي المحدث، وابن القيم... رحمهم الله. وكذلك ما تزال هذه القضية تناقش في العصر الحديث، فوجدنا من يبيحها مثل الشيخ يوسف القرضاوي، ومن يحرمها مثل الشيخ الألباني، ويؤكد الكاتب أنه رغم كثرة المصنفات في الموضوع، فإنها توقع قارئها في الحيرة والاضطراب، وتترك أسئلة من غير جواب، ورصد عددا من الملاحظات حول تعامل المبيحين والمحرمين لها، وقد عدد ذكرها في مقدمة الكتاب، يذكر منها:
أولا: يستند كل فريق إلى أدلة ضعيفة أو بعيدة عن موضوع الغناء، فترى الأولين يستدلون بنصوص قرآنية وحديثية لا علاقة لها بالقضية، وتلحظ الطرف الآخر يحتج بآيات وأحاديث لا مناسبة بينها وبين المسألة، والظاهر أن التطويل والحشو يدفع الفريقين إلى ذلك، أو هو العجز عن إقامة الأدلة، أو شيء آخر.
ثانيا: رأيت أكثر المبيحين يحتجون على الجواز المطلق، بأحاديث مقيدة بالعرس ونحوه، وبالمقابل يستند المانعون إلى نصوص خاصة بالغناء الفاحش أو غناء المشركين، فيعممون الحكم.
ثالثا: يجتهد كل فريق في عرض أدلة مذهبه، ويتعمد الإعراض عن مناقشة حجج مخالفه، وذلك قصور وإن كان له ما يبرره، وفيه إيهام بعدم وجود مستند لدى المخالف.
رابعا: إذا تعرض أحد الفريقين لحجج المعارضين، فإنه يقتصر على ذكر ما هو ضعيف، أو على ما يسهل رده بالتقييد والتخصيص ونحوهما، وذلك تدليس وتغرير!
وقد قسم الأنجري الكتاب إلى ثلاثة فصول، تضمن كل فصل عدة مباحث، حيث ناقش في الفصل الأول الأدلة على جواز الغناء المقترن بالآلات الموسيقية، فجاء المبحث الأول فيه ليناقش الغناء في الأفراح والمناسبات المختلفة مثل الأعياد الدينية والمناسبات الاجتماعية، ذاكرا آراء ومذاهب جماهير الفقهاء في هذه القضية، أما المبحث الثاني فيناقش أدلة إباحة الغناء في غير المناسبات والأفراح.
وفي الفصل الثاني ناقش أدلة الذين حرموا الغناء، وقسمه إلى مباحث ثلاثة، حيث ذكر أدلة المحرمين من القرآن الكريم، مؤكدا أنهم عمدوا إلى الاستدلال بآيات لا علاقة لها بالغناء، وبل أنهم قد ذكروا أدلة صريحة في غناء المشركين، ليستدلوا بها على تحريمهم له. وفي المبحث الثاني استعرض أدلة المحرمين للغناء من السنة، لكنه أكد أن الأحاديث التي استدلوا بها على التحريم هي أحاديث ضعيفة، أو بعيدة عن القضية من أساسها، وفي المبحث الثالث استعرض أدلتهم التي أتوا بها من آثار الصحابة والتابعين، وأكد أن أدلتهم في التحريم شأنها شأن السنة لا علاقة لها بقضية الغناء بشكل مباشر.
وأخيرا في الفصل الثالث ناقش مواقف العلماء من الموسيقى والغناء، حيث قسمه إلى مبحثين، المبحث الأول موقف المذاهب الأربعة من الغناء، أما المبحث الثاني فذكر فيه أئمة من السلف والخلف يجيزون الغناء بالآلات في مطلق الأوقات.
وقد خلص الكاتب إلى أن: أولا الغناء الطيب المقترن بآلات الموسيقى كالدف والطبل، سنة في الأعراس والأعياد والختان وقدوم الغائب، مباح في سائر الأيام والمناسبات. ثانيا: الدف والطبل والعود والزمارة أي الناي واليراع والشبابة، آلات ثبت جوازها بأدلة خاصة، وغيرها من الآلات لم يرد بشأنه نص صحيح بالحظر أو الإباحة، فالجواز هو الأرجح، قياسا على الآلات المباحة صراحة، ولأن الأصل في غير الأمور التوقيفية هو الإباحة، وبدليل بعض الأحاديث العامة. ثالثا: إن احتراف الغناء الهادف الخالي من المنكرات، ثم التكسب به أمر مشروع، فقد اشتهر كثير من النساء والرجال بذلك في عصر السلف الصالح، ولم يصح عن أحد منهم أي إنكار، وبعضهم كان معروفا به في أيام النبوة، كأرنب وسيرين. رابعا: الغناء مباح للرجال والنساء على السواء، ولا يشترط فيه صغر السن، فإنه لم يثبت دليل واحد يخص قوما بالإباحة دون غيرهم، بل توفرت أحاديث وآثار صحيحة، تصرح بجوازه للجميع. خامسا: إن أدلة المحرمين لا تنفع شيئا، فهي قسمان: قسم ضعيف أو موضوع، وقسم صحيح لكنه بعيد عن محل النزاع لأنه ينهى عن الغناء الفاحش الماجن أو الغناء الشركي. وقد أشار الكاتب إلى أن أدلة الإباحة غالبها مخرج في الكتب الصحاح، أما أدلة التحريم فسائرها من المصنفات المتساهلة في الأسانيد.
كذلك يرى الكاتب أن الغناء في المناسبات وغيرها، كان محل قبول في أيام الصحابة وكبار التابعين، فإنه لم يثبت عن أحد منهم ما يدل على منعه، بل وصلتنا عنهم أخبار صحيحة تقطع بالإباحة.
وإنما ظهر الخلاف حول الغناء في عصر أتباع التابعين، وكان ذلك نتيجة الجهل بأدلة الجواز، أو سدًّا للذرائع، فإن بعض الأئمة، رأوا شيوع غناء المجان، وتكاثر المخنثين، فأفتوا بحظر الغناء وآلاته حماية للمجتمع من الانحلال، حسب اجتهادهم القاصر.
كما أكد على جواز الغناء بالدف في الأفراح، مذهب جماهير الفقهاء من جميع المذاهب، وإنما الخلاف القوي في غير مناسبات السرور، وهذه مسألة لا ينتبه لها الذين يتصدون للتحريم، فتراهم ينسبون إلى الأئمة التحريم المطلق، وهم مدلسون أو كاذبون أو جاهلون مقلدون. وأشار في معرض الكتاب إلى أنه لا يصح عن أحد من الأئمة الأربعة نص بتحريم الغناء الخالي من الكلام الفاحش، ولم يثبت عن أحد منهم تحريم شيء من آلات الموسيقى، إلا الطنبور وهو العود، فمحرم عند الإمام أحمد وحده. وأكد على أن الأئمة الأربعة بريئون من التحريم الذي ينسبه إليهم بعض المؤلفين والخطباء!
وأشار إلى إباحة الغناء الخالي من المجون والشرك، وجواز آلات الموسيقى جميعها، اختيار عشرات الأئمة المجتهدين من كل المذاهب، وهو اختيار تعضده نصوص الشريعة وقواعدها. كما أكد على جواز الإنشاد من غير استعمال آلات الطرب، محل اتفاق الأئمة، وإنما شذ بعض المتأخرين فقيدوا الإباحة ببعض المناسبات، ونصوص الشريعة ترد عليهم بقوة. وأخيرا: كل الفنون الغنائية مباحة، ما لم تقترن بمحرم كالمجون والعري، أو تتضمن دعوة للشرك والكفر والفجور، فالتحريم أو الكراهة يكونان لذلك، لا للغناء في حد ذاته، وأن الغناء الديني والعسكري والسياسي والاجتماعي والوطني والعاطفي العفيف...، كل ذلك مباح في الشريعة السمحة.
وأشار إلى الأنواع الغنائية كالطرب الأندلسي، والراي، والهيب هوب، والراب، وما لم نذكر، كلها فنون مباحة ما كان كلامها خاليا من الشرك والدعوة للفجور، ولو خلت أغنية "اعطيني صاكي" من بعض الكلمات المستفزة للحياء، وأدتها المغنية باحتشام، لما كان فيها حرج شرعا، والجهل المكعب بروح الشريعة يدفع أصحابه للهيجان، فيعلنون النفير العام لأغنية تافهة شكلا ومضمونا.
والإنسان حر في ذوقه، فمن كانت موسيقى الراب أو الهيب هوب مزعجة بالنسبة إليه، فمن حقه أن يستقبحها من غير القطع بتحريمها أو كراهتها، لأن الشريعة لم توضع على حسب الأمزجة الشخصية.
ومن كان كثيف الطبع، لا يطرب لأي لون موسيقي، فله أن ينفر من الغناء، ولا يفتئت التحريم على رب الأرض والسماء.
|