القاهرة 10 سبتمبر 2024 الساعة 11:03 ص
بقلم: عمر أبو القاسم الككلي
لم تودعهما وهما يتهيآن للذهاب إلى الصيد صباحا. لم تسألهما أن يحرصا على نفسيهما ويأخذا حذرهما، بل إنها تحاشت حتى أن تلتقي عيناها بعيني أي منهما. ذلك أن إحساسا قويا يؤكد لها أن موعد الحسم قد آن. منذ أسابيع وهي تتوقع حدوث هذه الواقعة وترجو ألا تحدث أمام عينيها.
في البداية لم تشعر بالأمر (ليس، فقط، لم تشعر. بل إنه ما كان ليخطر لها على بال). فالرجلان صديقان (كانا)، تضرب صداقتهما بجذورها في سنوات طفولتهما. وبعد أن تزوجت أحدهما كان عليها أن تتقبل مزاحمة هذه الصداقة لها وتتفهمها وتتصالح معها. وعندما نجا ثلاثتهم من بين جميع ركاب الطائرة التي تحطمت على هذه الجزيرة المنعزلة الخالية، تعزت بوجودهما معًا.
ازدادت العلاقة بين الرجلين قوة وتلاحما، أول الأمر، لكنها سرعان ما تنبهت، بعد أن استقروا وتكيفوا مع الحياة الجديدة، إلى أن طبيعة العلاقة بين الرجلين قد أخذت تتبدل.
- ما عدتما تجلسان طويلا وتتحدثان مثلما كانت العادة.
- لم يعد لدينا ما نتحدث فيه.
- أظن أنه من الصعب عليه أن يبقى وحيدا هكذا.
نظر إليها زوجها نظرة قصيرة ثم قذف بكرة التراب المبتل التي كان يسويها بين يديه إلى الجدول فغرقت، بعد أن جعلت الماء يتطاير، وطفا التراب على السطح معكرا الماء. ثم نهض.. نفض التراب عن يديه، وظل واجما. عندها أدركت أين وضعت نفسها واكتشفت الخطر الذي كان يستفحل في الأغوار مادا الخطى نحو السطح. ذلك جعلها تبالغ في التزام الحذر، فتتفادى الإشارة إلى الآخر قدر الإمكان، حاصرة التعامل معه في أضيق الحدود. ويبدو أنه أدرك، هو الآخر، ما أخذ يمد الخطى نحو السطح فالتزم جانب العزلة أكثر وصار يتجنب مجرد الاقتراب منها. أصبحت كثيرا ما تفكر في وضعه وتتساءل إلى متى سيظل قادرا على تحمل ذلك. تتصوره منطويا على نفسه في الليل يرطب وحشته (أو يذكي أوارها) باستحضار صورتها. ليس تفاصيل جسدها، ما انكشف منها وما استتر، فحسب، بل ونظراتها وابتساماتها، التفاتاتها وانحناءاتها، نبرات صوتها وإيمات يديها وهي تتكلم، مشيتها ووقفتها وجلوسها، رنة ضحكتها وانكتام وجومها، سرورها وحزنها، انتباهها وشرودها، انفتاحها وانطوائها، صمتها وتنفسها. لا بد أنه يتصور الأوضاع التي تتخذها في نومها وأثناء الجماع وتفاعلها مع سريان تيارات اللذة في كيانها، فأخذت تحرص على كظم آهاتها وصرخاتها خشية أن يكون يطوف حول مكانهما ليلا مستكشفا ما يحدث. لا بد أنه يتساءل إلى أي مدى وكيف تفكر فيه وما موقفها مما يمكن أن يحدث.. مما سوف يحدث.. مما سيحدث. يوما إثر يوم أخذ يترسخ في أعماقها أن الأمر لا يمكن أن يدوم طويلا على هذه الحال. لو أنهم كانوا رجلا وامرأتين لانحلت الأزمة بقدر من السهولة. كان الرجل بادر إلى ضبط الأمر ورضيت المرأتان بالاشتراك فيه. وضعهم حالة استثنائية ينبغي التعامل معها بشكل مختلف. لكنها لا تريد أن تتدخل. تخشى أن تتدخل. الحالة الجارية الآن مرض فتاك ملامسته تهيجه. إنها لا تفكر في أن تخذل زوجها، لكنها لن تشجعه على (أو تحاول ثنيه عن) المضي فيما لا بد أنه عازم على المضي فيه. ولن تتواطأ مع الآخر أو تحاول ثنيه. هما أيضا لم يسعيا إلى استقطابها. كأن لا أحد منهما يثق بها أو يعول عليها. أو أن كلا منهما يرى في مجرد حيادها مكسبا. أو أنهم، ثلاثتهم، قد عادوا إلى المرحلة الحيوانية حيث تحسم الذكور صراعها فيما تظل الإناث تنتظر المنتصر. الفارق في حالتهم أن الصراع لا ينتهي بهزيمة. إنه ينتهي بتصفية. لا مجال للمصالحة، ما دامت هي موضوع الصراع. في النهاية سيبقى لها أحدهما. على الأرجح. ماذا سيكون مصيرها لو هلك الاثنان.
توارت خلف شجرة وظلت تنظر إليهما وهما يبتعدان حتى اختفيا. ثم أخذت تتخيل كيف ستتطور الأمور:
يسير الرجلان متحاذيين، وكما يحاذر الصياد المتسلل إثارة الطريدة، يتجنب كل منهما إثارة شكوك الآخر التي يعلم كلاهما، تمام العلم، أنها موجودة ومتنبهة. فجأة يشعر أحدهما بملل لا يطاق من الاستمرار في اللعبة المفضوحة لكليهما فيقرر إيقاف هذا العبث. رأت أحدهما يضرب الآخر، بكامل حرصه على الاحتفاظ بها (أو بكامل رغبته في افتكاكها) على مؤخر الجمجمة، فيتهاوى الآخر، بكامل رغبته في افتكاكها (أو بكامل حرصه على الاحتفاظ بها) مفلتا آهة مبتورة. لم تكن تحاول أن تتخيل وجهيهما. كانت تتخيل ظهريهما فقط. مؤجلة رؤية الوجه إلى حين عودة أحدهما.
.
|