القاهرة 10 سبتمبر 2024 الساعة 10:26 ص
بقلم: منذر السليمان - سوريا
تعد رواية "شينجيانغ" أو "الحب اسمه الجبل السماوي"، رواية الإنسان بكل تجلياته، معركته مع موروثه الفكري، ومع نفسه، ومع الطبيعة، وقبل كل شيء معركته للتحرر من فرديته التي لا يمكنها أنْ تحقق عالما من المحبة، ولا يمكنها أنْ تخلق إنسانا قادراً على قيادة مستقبله، ونسج علاقات مجتمعية يمكنها الصمود بوجه العوائق والمخاطر والتحديات، لخلق عالم جديد، ومستقبل جديد، مستقبل للجميع، للوطن، وللذات، وليس محاولة بحث عن خلاص فردي، ونمطية تعيد تكرار خلق علاقات ماضوية، غارقة في فكرة العبد والسيد، ومرهونة لرؤى وأفكار نمطية.
"فبراير، تتجمد شينجيانغ من البرد القارس.
العاصفة الشمالية تكنس أوراق العنب الجافة وتطيرها بعيداً، وتهز لوحة القصدير لـ "إدارة اللوجستيات في منطقة شينجيانغ العسكرية" المعلقة عند مدخل الفناء.
"بانغ بانغ!”
المكتب المواجه للرواق، نافذته مفتوحة الآن، والضجيج القادم من الداخل مخيف.
"لا تقل لي كلاما فارغا ، عليك أنْ تعالج الأمر من أجلي، وستعالجه في كل الأحوال، فلا تصعب الأمر عليّ وعليك!” وبعد أنْ تعالجه، سأعود أنا إلى جنودي، وستبقى أنت في منصب المدير، والقاعدة تقول، إنَّ مياه البئر لا تنتهك مياه النهر، إلا إذا.... لذلك عليك أنْ تتعامل مع الأمر بشكل جيد، وإلا، فلا تلق عليَّ أي لوم إذا كنت قاسيا!”
يلوح ليو بيديه بشكل عشوائي في الهواء، بدا وكأنه سيبتلع المدير لي حيا".
هذا هو المشهد الأول في الرواية، والذي يعرفنا مباشرة، بأن المكان في الرواية هو شينجيانغ ببردها القارس، ويجعلنا نراقب في الوقت ذاته "القائد ليو" الذي لا يستطيع استيعاب نقله من مكانه في الجيش -حيث يخدم في قطعة محاربة- إلى "إدارة اللوجستيات في منطقة شينجيانغ العسكرية" وهو يرى أنَّ في الأمر خطأ ما، فهو لم يتعود الجلوس خلف مكتب، والتحضير لحفل ما، وقد نسي منذ زمن بعيد كيف يمكنه زراعة الحقل الاعتناء به، أو تقشير البطاطا أو أو... لذلك فهو يكاد أنْ يبتلع المدير حيا، لأن دماغه لا يستطيع أنْ يتقبل هذا القرار الذي يسبب له الجنون".
لعل القارئ لرواية الجبل السماوي، ومنذ فصولها الأولى سوف تأسره شخصية "القائد ليو"، فقد قدَّمه مؤلف العمل بصورة جذابة، اجتمع فيها المقاتل الجاد والقائد الشجاع بما لديه من حسٍ عالٍ بالمسؤولية يحتِّم عليه أنْ يكون على الدوام رأس الحربة، وفي مقدّمة السرية التي يقودها في أية مهمة يكلف بها، ولم يغفل الكاتب البعد الإنساني الذي تتسم به هذه الشخصية الريفية البسيطة، وقدرتها على التكيف والتطور، وفي ذات الوقت حدتها وطرافتها ومباشرتها وصدقها في الإيمان بالفكرة، وعدم قدرة هذه الشخصية على استيعاب المهام الصغيرة والاعتيادية التي قد توكل إليه، بحيث نراقب بشغف، حالة الارتباك التي أصيب بها هذا المقاتل بعدما تمَّ تكليفه من قبل القيادة بمهام لوجستية، وهو الذي لا يتقن ولم يعرف من الحياة سوى مواجهة الأعداء، والتخطيط لهزيمتهم، وما سينتج عن ذلك من عديد المواقف الطريفة التي ستحدث معه، كل ذلك سوف يضفي الكثير من الطرافة والجاذبية على شخصه، أيضاً سيتعاطف معه القارئ بشدة لما سيعيشه من صراع داخلي، فهو من ناحية لديه مشاعر رافضة للمهمة التي كُلف بها كضابط لوجستي، والتي يجدها لا تليق بعسكري ومقاتل من صنفه أمضى حياته في ساحات المعارك، وكُرِّم من قبل القيادة بأرفع الأوسمة لما حققه من انتصارات، ومن ناحية أخرى لا يمكنه إلا أنْ ينفذ أوامر القيادة التي يقدرها ويحترمها أيما تقدير.
غير أنَّ القارئ وكلما انغمس في أحداث الرواية، وتعرَّف أكثر على القائد ليو الذي تمحورت حوله أحداث الرواية ودارت باقي الشخوص في فلكه، سيكتشف أنَّ سرَّ انجذابه وتعلقه بهذه الشخصية ليس فقط لما ذكرناه آنفاً، وإنَّما بسبب تلك الروح الوطنية العالية التي تتمتع بها شخصيته المتشربة بفكر وعقيدة الثورة الصينية، والصدقية والتفاني من قبله للحفاظ على مقدرات ومنجزات الثورة والوطن، وحرصه الشديد على زملائه وكل من يعمل لأجل النهوض بالوطن.
فبعدما أنهت قوات جيش التحرير الشعبي الصيني مهمة حرب التحرير، وتمكنت الدولة من بسط سلطتها على كل الأراضي الصينية، سيجد ليو نفسه أمام مأزق كبير، وهو الذي كان يحلم بالعودة إلى صفوف العسكر في سريته، وسيضطر لترك البندقية مرغماً في بداية الأمر، وحمل سلاح آخر كما أخبره القائد العام للجيش حيث قال له:
"بالنسبة للجندي، سلاح الحرب هو الحربة والبندقية! وسلاح الإنتاج هو المنجل والمعزقة! بالتالي: ضع الحربة، وارفع المنجل.. ضع البندقية، واحمل المعزقة، الأمر بهذه البساطة."
فقد باتت المهمة التالية لجيش التحرير الشعبي هي الانخراط في معركة البناء، وأتت الأوامر من القيادة العليا للجيش، إلى قيادة الفيلق الذي ينتمي له ليو بالتحرك نحو منطقة شينجيانغ، هذه المنطقة التي تقع في شمال غرب الصين، والمحررة حديثاً بطبيعتها شديدة القسوة، فهي صحراء شاسعة تجتمع فيها البرودة الشديدة شتاءً، والحر الشديد صيفاً دون أي غطاء نباتي، وكان على الفيلق تشكيل فرقة ستكون تحت قيادة ليو، مهمتها العمل على استكشاف تلك الأراضي الصحراوية بما فيها من جبال ومرتفعات ومستنقعات، واستصلاحها خلال مدة قصيرة من الزمن لتصبح مهيأة لزراعة المحاصيل المختلفة.
لقد كانت المهمة بمثابة تحدٍ كبير لليو وجنوده، إذا عليهم الوصول إلى المكان المحدد سيراً على الأقدام فوق تربة متجمدة، وضمن حرارة جو تحت مستوى الصفر، وعليهم أيضاً أنْ يصنعوا لأنفسهم أوكارا تؤويهم، فقاموا بحفر مخابئ لهم في رمال الصحراء، بالإضافة إلى الاكتفاء بوجبة واحدة من الطعام يومياً لندرة الموارد، وأما عملية استصلاح الأرض، فكل ما استطاعت قيادة الجيش تقديمه لهم هو فقط معزقة لكل جندي، وخلال مدة قصيرة كان على هؤلاء الجنود الوصول إلى أرضية تمكّنهم من أنْ يأكلوا مما ينتجونه من محاصيل.
بالتالي فإنَّ التحدي والمسؤولية الأكبر كانا على عاتق القائد ليو، هذ الأخير الذي سنشهد من خلال الأحداث التي سيمر بها تحولات كبيرة في شخصيته، فالمقاتل الشرس القاسي الذي لا يعرف سوى البندقية والحربة، والذي كان قد تلقى تعليماً متواضعاً للغاية، والذي بالكاد يعرف تهجئة الحروف، سوف يبدأ بإعمال عقله، وابتكار العديد من الخطط والطرق لإخضاع الطبيعة القاسية، والتَّكيُّف معها وتطويعها بما بين يديه من أدوات بسيطة محدودة، بالإضافة إلى بث الروح المعنوية العالية في نفوس جنوده، هؤلاء الذين وأثناء انخراطه في مشروع الاستصلاح، لم يكن ليغفل ولو للحظة عن الحفاظ على أمنهم وحمايتهم من هجمات المتمردين الرجعيين.
وإلى جانب العمل على استصلاح الأرض، ارتأى ليو ومن خلال الإشكالات التي يواجهها مع جنوده، أنَّ خطة البناء لا يمكن أنْ تتم وتكتمل، إلا باستصلاح وبناء الإنسان أيضاً، وأنَّه من الضرورة العمل على تعليم وتثقيف جنوده، وتهيئتهم فكرياً ليكونوا لَبُنات راسخة في الذَّودِ عن كلِّ المُكتسبات التي حققتها الثورة، وقادرين على التَّكيُّف مع مختلف المتغيرات، ولذا، فقد باشر بعمل حلقات تثقيفية لهم يديرها الجنود الأكثر تعليما وثقافة، دون أنْ يغفل الفوارق الشخصية، والفهم العميق لضرورة فهمه للشخصيات التي يجب العمل على تطويرها.
بالطبع لا يمكن إغفال دور بقية شخوص الرواية، والذين كان لكلٍّ منهم دوره الأساسي في مختلف مسارات الحَدَث، فمن شخصية المُرشد والذي يشكل دليلا عمليا للقدرة على التوجيه والتفكير المتعقل والمتفاني والإنساني في آن، إلى شخصية غيوم، تلك الفتاة التي تولت قيادة المجندات المستجدات، والتي لا ينقصها اعتدادها بنفسها ولا الجرأة، مما لفت نظر ليو وأوقعه في حبِّها، لكن إلى أين ستسير قصتهما وكيف سيوظفها الكاتب في النص، هذا ما سيكتشفه القارئ كلما أوغل معهما في متاهات التجربة.
غير أنَّ شخصية القائد ليو وذكاء الكاتب في بنائها، وإدارته لعلاقاتها مع الشخصيات الأخرى، جعلت من هذه الشخصية التمثل الأرقى لشخصية الإنسان الصيني، هذا الأخير والذي بدون أية إمكانيات تُذكر، ومن أرضية غاية بالبساطة، استطاع هزيمة المستعمر وتحرير أرضه وتطهيرها بسلاحه البسيط، لكن سلاحه الأهم، والذي لا يمكن له إلا أنْ ينتصر، كان إيمانه بذاته وقدراته وبفكر الثورة، وانصياعه التام لقيادة الثورة الذين لم يشك يوماً بحكمتهم وحصافتهم،
إنَّ رواية الجبل السماوي، تمثل خير شاهد على تلك المرحلة التي عاشتها الصين، مرحلة ما بعد تحرير الأرض، والانتقال نحو تحرير الإنسان والبدء ببناء الوطن من نقطة الصفر، على الرغم من ندرة الإمكانيات المتاحة، ورغماً عن الحصار المفروض عليها من الغرب ودول الاستعمار القديم.
|