القاهرة 03 سبتمبر 2024 الساعة 10:46 ص
كتب: صلاح صيام
العقلية المصرية لا يقف أمامها شيء، فهى صاحبة حضارة تمتد جذورها إلى أكثر من سبعة آلاف عام، ومن ينقب عن هذه الشخصية يجد أمثله كثيرة ناجحة بل ومتفوقة، ومنها علوي الجزار الذى أنتج منتجا يستخدمه معظم المصريين فى جمهورية مصر العربية.
فى منتصف الثمانينيات كانت هناك بيوت كثيرة ومحلات تضع بوسترات ونتائج حائط لشيخ عجوز مبتسم، يصب الشاى فى كوب زجاجى صغير اسمه «الشيخ الشرّيب»، فسَّرت لى جدتى اقتران الشاى بـ«شيخ» بأن هذا النوع من الشاى كله «نفحات»، كان الشيخ الشريب هو أول علاقتى بالشاى التى تحولت إلى تفصيلة أساسية فى حياة الواحد كمواطن مصرى عادى يتكون جسمه من 30 % ماء و 70 % شاي، يقدس هذا المشروب باعتباره "مزاجا حلالا".
نصَّب المصريون الشاى وزيرا لداخلية المعدة، لقدرته على «الحبس» بعد الطعام! أصبح لكل طائفة «شايها»، من الصنايعية كحالة من الراحة المقترنة بالتأمل الذهنى فى الشغلانة، إلى شاى المذاكرة. ومن شاى عزومة المراكبية «تعااشّب شاي»، إلى شاى العلاج من الصداع والبرد وتعكر الدم، وسجل المصريون باسمهم اختراع استخدام الملعقة المعدنية كأداة عزف تعلن أن الشاى على بُعد خطوات.
يقدس المصريون الشاى لدرجة أن الحكومة أقرته كمادة تموينية أساسية تستحق الدعم، لنصبح أول دولة فى العالم تقنن وتدعم مزاج مواطنيها.
كان الواحد يتابع مسيرة الشاى فى وجدان المصريين وهو مشغول منذ الطفولة بسؤال من هذا الرجل المرسوم على علبة شاى الشيخ الشريب، كنت أقدم لنفسى إجابة واحدة وهى أنها صورة صاحب المصنع كنت أعتقد أنها إجابة مرضية حتى كبرت وعرفت الحقيقة.
علوي الجزار ابن الحوامدية، خريج كلية الزراعة، انطلق فى صناعة الشاى بمشاركة ثلاثة من أشقائه، تزوج وأنجب ثمانية بنات، يقول المصريون (رزق البنات واسع)، مسيرة الجزار تؤكد تلك المقولة، إذ لم يكن شاى الشيخ الشريب هو إنجازه الوحيد، كان الجزار رئيس مجلس إدارة مصنع كوكا كولا وصاحب 70% من أسهم هذا المشروع، واستطاع أن يثبت أقدام المنتج فى مصر والمنطقة عموما بنجاح.
بخلاف الشيخ الشريب وكوكا كولا، كان لديه مصانع للسجاد والبلاط والموبيليات والشربات وماركة البونبون الشهيرة (فينوس) وكريم نيفيا، وكان صاحب مزرعة كبيرة بشراكة مع الخواجة اليكو انبثق عنها مطعم أندريا الشهير، وكان أيضا صاحب سينما الفانتازيو الشهيرة فى ميدان الجيزة، وفندق شهرزاد.
كان علوى الجزار نموذجا لصنايعى الأعمال تنطبق عليه مقولة يحول التراب إلى ذهب، وكان نجاح مشروع تصنيعه للشاى نموذجا يستحق الدراسة، كان يستورد الشاى الخام من سيلان ويصدره مصنعا إلى معظم الدول العربية وكان تقريبا الشاى الرسمى المعتمد عند المصريين على الرغم من وجود منافسين مثل شاى (زوزو) إنتاج مصنع الحوامدية، وشاى (كراون) إنتاج مصنع بورسعيد، لكن الشريب تفوق بخلاف الجودة بسبب العقلية الدعائية للجزار، فقد رسم فى وجدان المصريين بصورة الشيخ الشريب ملامح لشخص ارتاحوا له ولابتسامته سريعا، شخص من بينهم وليس نجما سينمائيا، به أبوة ويشعرك بقرابة ما أو بأنك حتما التقيت به، كما كانت إعلانات الصحف والمجلات تخاطب صاحب القرار فى موضوع الشاى فى كل بيت وهى المرأة، وكانت صيغة إعلانات الشريب واحدة دائما تقول: «يقول علماء النفس بعد دراسة أن المرأة تفوق الرجل فى القدرة على تمييز طعم المر والحامض والمالح والحلو وأنها أدق من الرجل فى تذوق الطعم، ولهذا اختارت السيدة المصرية شاى الشيخ الشريب مشروبها المفضل».
فى بداية الستينيات تولى علوى الجزار رئاسة نادى الزمالك، وكان أصغر من تولى هذا المنصب سنا ( 38 عاما) وصاحب أقل فترة رئاسة (عاما واحدا)، وحقق إنجازات كثيرة أهمها حمام السباحة الأوليمبى وتأسيس لعبات جديدة بخلاف كرة القدم، أما فى كرة القدم فقد حقق بطولة الدورى مرتين متتالتين، قرر بعدها أن يستضيف على نفقته فريق كرة القدم العالمى (ريال مدريد) ليلعب مباراة ودية فى القاهرة، وكان حدثا مشهودا، لكن هناك رواية تقول إن هذه المباراة كانت سببا فى تعرض علوي الجزار لأذى التأميم..
تقول الحكاية – والعهدة على الناقد الرياضى محمود معروف – إن عبد الناصر كان يشاهد المباراة تليفزيونيا، وكان الجزار يجلس فى المقصورة إلى جوار رئيس نادى ريال مدريد، وحدث أن أشعل كل واحد منهما سيجارا فخما، سأل عبد الناصر عن الشخص الذى يدخن السيجار إلى جوار الضيف الأجنبى فقالوا له علوى الجزار، فسألهم: وده أممناه ولا لسه؟، وكانت الإجابة (لسه)، فكان قرار التأميم. كان القرار عنيفا، صدر وهو فى طريق عودته إلى بيته، تحت البيت وجد فى انتظاره ضباط تنفيذ القرار، وكان أول ما فعلوه أنهم نزعوا من يده ساعته الرولكس، وسحبوا منه سيارته الفارهة.
لكن الجزار كان أقوى منه وخلق لنفسه ملاعب جديدة ونجاحات مختلفة، ولم يمنعه قرار التأميم عن تأدية واجبه الوطنى فقد ساعد بعلاقاته فى بعض الدول العربية مثل ليبيا فى ترتيب إقامة الحفلات الغنائية التى كانت تقدمها أم كلثوم لدعم المجهود الحربي، وفى الوقت نفسه عاد إلى العمل سريعا، اضطر أن يجعل عمله سريا لفترة خوفا من ملاحقة جديدة، فأسس مع صديق له مصنع (إيديال) للحلويات، وكان المصنع مسجلا باسم شخص ثالث، نجحت الخطة و أصبح المورد الرئيسى للشركات والمصانع الحكومية التى تحتاج إلى منتجات إيديال مثل عرق الحلاوة وعسل الجلوكوز، وسرعان ما استعاد عافيته لرجل أعمال فى الوقت الذى كانت أسهم الشيخ الشريب تتراجع فيه حتى أصبح اسمه مجرد ذكريات بعد أن كان أول من نظم صناعة الشاى وتسويقها بشكل حقيقى فى مصر منذ دخوله إلى أرضها.
كانت معظم مطابخ ومحلات بقالة ومقاهى مصر بها نتيجة حائط أو بوستر عليها شيخ يرتدى الزى التقليدى ويصب الشاى بابتسامة صارت أيقونة فى مخيلة المصريين، كان البعض يعتبرون هذة الصورة محض خيال فني، لكنها شخصية حقيقة وهو ليس شيخا ولكنها صورة (عم عرفة) الذى كان يعمل سائقا عند علوى الجزار، وكان الجزار يحبه ويتفاءل به، فقرر أن يجعل صورته رمزًا للشاى الذى اجتاح مصر بقوة حتى نهاية الثمانينيات.
|