القاهرة 03 سبتمبر 2024 الساعة 10:32 ص
بقلم د. هبة الهواري
ولد الفنان المصري الكبير عبد الرحمن النشار بالقاهرة في أكتوبر عام 1932، وتوفي إلى رحمة الله في ديسمبر 1999 ولقد حصل على دبلوم كلية الفنون الجميلة بالقاهرة 1956 ودبلوم المعهد العالى للتربية الفنية 1957 ودبلوم أكاديمية الفنون الجميلة 1970 (بودابست). ثم حصل على دكتوراه الفلسفة فى التربية الفنية (تصوير) جامعة حلوان 1978. وهو كما كتب عنه بدر الدين أبو غازي في تعليقه على معرضه الذي أقيم عام 1988 إن عبد الرحمن النشار فنان تميز فى مرحلته التشخيصية بقدرة فائقة على بناء اللوحة وتجميع عناصرها فى وحدة متسقة، كذلك كانت أعماله الكبرى التى تعبر عن الأحداث، وهو بمقدرته هذه يستطيع أن يخاطب الوجدان العام وأن يحقق اللقاء بين العمارة والتصوير لو اتجه إلى اللوحات الجدارية، ولكنه يتحول فى مرحلته الجديدة إلى الفن التجريدى مزوداً بقدرته على بناء اللوحة وتكوينها وبمميزاته فى معالجة الألوان . هى رحلة أخرى للفنان تطلعنا على وجه جديد من أسلوبه فى التشكيل.
وعلى الرغم من الطبيعة التركيبية للبناء الهندسي في أعمال النشار إلا أنها تمتاز بتلك الخاصية التي تتفرد بها الأعمال الفنية الكبرى في تاريخ الفنون وهي التماسك وهي تلك الطريقة التي تتم بها عملية التنظيم أو التشكيل، أو تكوين البيئة الخاصة، فنراه في العمل الملحمي الذي نتناوله اليوم عن القضية الفلسطينية وهو يخلق عالماً جديداً خاصاً تسبح فيه كائناته التي ابتكرها، بطلاقته، فالقدرة على تنظيم ما يراه إلى وحدات قليلة متماسكة قابلة للتحديد هي أمر حاسم هنا، حيث تكون قراءة تلك العناصر متناغمة ومنسجمة فى ضوء المشهد الكلي وهو جانب مهم من جوانب ظاهرة التماسك. وكذلك، فإن تكرار عرض الوحدة البصرية الأساسية نفسها مع تباينات قليلة ، فى كل مرة ، يساعد على تشكيل المشهد وإدراكه بسهولة التركيبComplexity وهو أحد المكونات الأساسية فى عمليات الانشغال أو الاندماج التي ترتبط بالمصورين والفنانين التشكيليين عموماً والتي حددها علماء النفس، حيث تتسم المخيلة المبدعة بالثراء والتنوع – فى تحليل المشهد الطبيعي و التأثر به – والفنان يقوم بعملية انتقائية خالصة ليقرر ما يستحق أن يكون المرء خريطة معرفية عنه، أو يكون مشغولا به.
وكما كتب أستاذنا الفنان الكبير أحمد نوار أن أعمال الفنان النشار الفنية تنطوي على مخزون ثقافى وتراثى تكشف عنه قيم اللون وحركة الأشكال وعمقها وقوة موجاتها الصادرة منها كحلقات التتابع الضوئى والصوتى.. وقد أدى ذلك إلى استخلاص ملامح الشخصية والبعد الفلسفى لها وبعدها الدرامى العميق.. والبعد البنائى الهندسى ذو الحس الرومانسى السيريالى يكشف عن أشكال تسبح فى فضاء مفعم بالحركة وأيضا البعد البنائى النافذ بين الأشكال الهندسية وبين التوليفات العضوية المجسمة والتى تخترق السطح بأعماق متعددة حيث يتكامل النسيج المرئى القائم على مفردات وأشكال متناقضة ومن هنا تظهر قيمة إبداعات `النشار` التى تتألق بتميز وتفرد. والبناء الإنشائى فى أعماق الفنان يمتد من أعماق الفكرة محملاً بالأحاسيس والمشاعر ومختلطاً بالمواد والأدوات وصولاً إلى مستويات عظمى للبناء الجمالى .. وهذا يذكرنا بالطاقة الكامنة فى الأشياء ـ فكل ما هو محسوس ومرئى هو نتاج طبيعى للعمق الداخلى لبنائها ـ ذلك ما ينطبق على إبداعات ` النشار ` وعلاقة بنائيات أعماله بالطاقة فهى علاقة الجمال بالكوامن الفكرية والفنية للعمل الفنى.وتتميز أعمال الفنان بمنظور كونى رياضى حركى فالمفردات التشكيلية وانطلاقاتها وتمددها وانشطارها وإنجازاتها واتحادها وتباينها وتكاملها تتحرك من خلال منظومة رياضية محكمة ومرئية تتعاظم فيها الأبعاد الجمالية الكونية للعمل الفنى .
وسوف نتناول بالتحليل لوحته التي أطلق عليها : "مأساة القدس".
وتاريخ إنتاجها عام 1968. والأبعــــاد: 122 ×180 سم
وهي منفذة باستخدام الألوان الزيتية على الخشب.
وهي مصورة من كتاب ليليان كارنوك عن الفن المصري المعاصر الذي أصدرته الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهي كذلك منشورة على الموقع الإلكتروني لقطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة المصرية تتكون اللوحة من وحدات متراصة بعضها متقدم في الأمام بفعل التأثير البصري للون والبعض مرتد إلي الوراء .أبنية ذات طابع شرقي (قباب) كنائس ومساجد وأطلال. سحب تتخلل المآذن يطير في وسطها البراق. المسيح طفلا وشابا وهو مصلوب . جثث بيضاء متناثرة. حيوان يفترس فتاه ملقاة على الأرض. يدان ممسكتان بمسجد وترفعه في الهواء وكأنهما تريدان أن تهوى به. ديك يقف فوق سور المسجد. مدرعة بها مدفع تتجه نحو المسجد والكنيسة. التخطيط العام: فتتكون اللوحة من شرائح أفقية غير منتظمة ولكنها متراصة بإحكام تفصل بينها درجاتها اللونية فبدت مترابطة كقطع الفسيفساء أو كلعبة البازل من الممكن فكها إلى قطع لكن تجمعها وحدة عضوية.
المنظور: أمامي متعدد الرؤى أعلى وأسفل مستوى النظر تتلاشى التفاصيل في العمق وتخف درجات الألوان وتتحد نقاط الارتكاز عند قاعدة البناية والمسجد عند المدرعة، الحيوان المفترس والفـــراغ عميق ممتد أفقيا ترتيب العناصر يوحي بالحركة المتتالية الأفقية مثل حركات عناصر الحدوتة الشعبية في عروض خيال الظل، ظل يتحرك يتلوه الآخر.
تبدو ملامح العناصر وهي تحمل ملامح دينية تاريخية؛ البراق المسيح والصلب المآذن والكنائس والديك ملامح تعبيرية سياسية: الوحش المفترس، المدرعة والسلاح، اليدين الممسكتين بالمسجد.
التوظيف اللوني متوافق مع سيادة البني والأصفر يستخدم درجات الأصفر بكثرة لون الذبول الأبيض مشوب بصفرة -ليس أبيض نقي- استخدم الأبيض للون البراق والأطفال والفتاة والمسيح الطفل المصلوب وحوله تتناثر الجثث. ويعمد النشار إلى خلق الإسقاط الضوئي بشكل ليس قويا لا يؤكد التجسيد النحتي حيث نرى مصدر الضوء موحد موزع بالتساوي في أنحاء اللوحة فيزيد الإحساس بالتسطيح، أما التوازن اللوني والتناسق في توزيع الغامق والفاتح والاتجاهات الخطية العامة التى تتجه في معظمها إلي أعلى فيما عدا جثث الأطفال والفتاة المطروحة أرضا. ويتولد الإيقاع من تكرار اللون الأبيض المشوب بصفرة في المقدمة والخلفية والوسط. تكرار المآذن بارتفاعاتها مع أبراج الكنائس في تنوع إيقاعي وتكرار الشكل المصلوب يولد إيقاعاً من نوعٍ جديد.
كذلك تتسم أعمال الفنان عبد الرحمن النشار بالوضوح أو القابلية للقراءة Readability ؛ فتذوق القيم الجمالية في لوحاته التصويرية تمتزج فيه أطياف من الحضور والغياب (أي تتسم بالغموض النسبي والقابلية للقراءة فى الوقت نفسه. وتلك التماوجات بين المقروء و المبهم بين الظاهر والخفي هي التي تمنح تلك الأعمال تأثيرها الفذ لدى المتلقي، فهناك دائماً حضور للذات المبدعة التي تخترق العناصر وتعيد صياغتها في خلق جديد.
إن هذا الحضور المهيمن في عملية التصوير لدى عبد الرحمن النشار هو الذي يجعل الفنان يتوقف عن الأداء عند نقطة زمنية محددة جداً هو وحده الذي يقررها ؛إذ يبدو بالفعل أن هناك معياراً للعمل المكتمل أو كما يقول هانز جيورج جادامار في كتابه تجلي الجميل الذي ترجمه أستاذنا الدكتور سعيد توفيق "العمل تام الإنجاز "، وهو: أن أي شُغل إضافي يصبح مستحيلاً عندما تبدأ بنية العمل تفتقدُ كثافتها بدلاً من أن تحصل عليها . فالعمل الفني عند إنجازه يبقى متحرراً بشكل مستقل وفقاً لحسابه الخاص، بصرف النظر تماماً عن إرادة مبدعه (بل وحتى عن تفسيره الذاتي للعمل). فالنشار يعرف بلاغة الصمت فنراه يتوقف عن الإضافة ويصنع الإغلاق، كمثل المؤلف الموسيقي العبقري حين يمتلك ناصية سيمفونيته و يمنحها خاتمة باهرة.
دائماً ما ترتبط الأعمال الإبداعية بمكون أساسي وهو التجريب، فيقوم الفنان بما يشبه سلسلة من التجارب التي من خلالها يكتسب معطيات جديدة باستخدام أسئلة تتوالى في أثناء العملية الإبداعية وهو ما يمكننا أن نلمسه ونحن نقرأ تلك اللوحات للفنان عبد الرحمن النشار حيث يتجلى البحث النشط والحيرة الإيجابية للبحث عن الفرادة في التصوير على مسطح اللوحة، والبحث عن إجابات هناك. وهكذا تولد الأعمال الفنية الفذة نتاج هذه العمليات التجريبية كما يقول جادامار وتلك الأسئلة التي تتخلل عملية الإنتاج الفني، ويمر العمل خلال تلك الرحلة حتى ينبثق بين يدي الفنان ما يمكننا أن نمنحه تلك المكانة المقدسة التي تكون للإنجازٍ الفريد.
|