القاهرة 03 سبتمبر 2024 الساعة 10:24 ص
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
لأي نص عدد من القراءات التي تختلف بحسب قارئيها، إذ ثمة قراءة واعية، تأملية، وئيدة، وثمة قراءة متعجلة لا يكون وراءها غرض سوى التسلية أو تضييع الوقت لا أكثر، وكذلك يختلف تأويل النص انطلاقًا من نوعية القراءة التي تتنوع أيضًا وفقًا لثقافة القارئ وإحاطته بظروف النص وكواليسه.
في كتابه "القراءة" الذي أنجز ترجمته كل من د. محمد آيت لعميم وشكير نصر الدين، يُجيب الكاتب الفرنسي فانسون جوف، وهو من أبرز الدارسين المعاصرين في المشهد النقدي والأدبي في فرنسا، عن ثلاثة أسئلة إلى جانب عدة موضوعات أخرى تتعلق بفعل القراءة، يجيب عن: ما القراءة ؟ - كيف نقرأ ؟ - ماذا نقرأ ؟
فانسون جوف لا يكتفي في كتابه هذا بالإجابة عن هذه الأسئلة فقط، بل يتعرض كذلك إلى دور القارئ، التفاعل بين النص والقارئ، القارئ الحقيقي، القراءة باعتبارها استشرافًا، القراءة وأوجهها المتعددة وتأثيرها.
بداية يعتبر المترجم آيت لعميم هذا الكتاب كتابًا مهمًّا، فهو جامع ماتع، كما يرى أن فانسون جوف هو واحد من أبرز الدارسين المعاصرين في المشهد النقدي والأدبي بفرنسا. لقد تعددت اهتمامات فانسون وانشغالاته، ساعيًا دومًا في ما يؤلف إلى توضيح المفاهيم المجردة واختبارها تطبيقيًّا، وهو صاحب كتابات منهجية تصبو إلى التعليم والتوضيح بلغة تميل إلى عذوبة الأدب، وتحيد عن كزازة الصرامة العلموية، وبذلك توفر قراءة أعماله شرط المتعة والإفادة.
لعميم يقول كذلك في مقدمته، إن كتاب "القراءة" يعد مقاربة عميقة ومنهجية لمسألة القراءة وفعالياتها ومستوياتها ورهاناتها، من خلال عرض استجماعي لمختلف التيارات التي جعلت من القراءة والقارئ موضوعًا لها. يفترض فانسون جوف، على حد قول لعميم، النص باعتباره قيمة، والقارئ باعتباره وحدة مزودة بالكفاءات والقدرات، ليتساءل عن المقصود بدراسة القراءة.
لعميم لا يكتفي بهذا بل يورد أيضًا ما قاله دافيد جاسبر في مقدمة في الهيرمنيوطيقا، ذاكرًا أن القراءة ليست مجرد البحث عن المعاني في النصوص، بل هي أيضًا البحث عن أنحاء التأثير الذي تتركه النصوص فينا، إذ يمكنها أن تغضبنا أو تخيفنا أو تغرينا، فتأثير الكتابة فينا يتجاوز مجرد فهمنا لها. وهذا ما يُسمّى أحيانًا بنموذج "الأدب – الفعالية" الذي لا يعتبر النصوص مجرد تعابير لغوية، بل هي أيضًا أداء وفعالية، قدرة النصوص على جعلنا نقوم بأشياء، هي القدرة نفسها التي تجعلنا نفهم المعنى الكامن فيها.
في الفصل الأول الذي يجعل فانسون جوف عنوانه "ما هي القراءة؟" يذكر نظرية جيل تريان التي ترى في القراءة سيرورة، أو عملية من خمسة أبعاد: القراءة باعتبارها سيرورة ذهنية – فيزيولوجية، القراءة سيروة معرفية، القراءة سيرورة عاطفية، القراءة سيرورة حجاجية، القراءة سيرورة رمزية.إضافة إلى هذا يتحدث فانسون جوف عن القراءة التي يعتبرها تواصلا مؤجلا، خاصة وأن القارئ والمؤلف يكونان في الغالب الأعم بعيدين في المكان والزمان، ولهذا فإن العلاقة بين المرسل والمتلقي غير متماثلة كلية من خلال القراءة.من هنا يرى فانسون أن الخاصية التأجيلية للتواصل الأدبي هي التي تصنع بالتحديد غنى النصوص.
وفي هذا السياق تتولد لدى فانسون أسئلة عدة منها: ألا يحق لكل قارئ أن يؤول النص كما يحلو له؟ أليس من المنطقي أن نتخلى عن استخلاص القصد الأول، ولا نرى في النص إلا ما نريد رؤيته؟
فانسون يصل إلى القول بأننا إن لم نستطع اختزال العمل الأدبي في تأويل واحد، فدعائم الإثبات تشير إلى أن النص يسمح بقراءات عديدة، لكنه لا يسمح بأية قراءة كما اتفق. هنا يعيد فانسون ما قالته كاترين كربرات من أن القراءة ليس معناها إرخاء العنان لنزوات الرغبة وللهذيان التأويلي، لأننا إذا استطعنا أن نقرأ أي شيء في أي نص، فكل النصوص ستصبح سواء. لكن هل هناك قراءة مشروعة؟ يجيب فانسون قائلا، وحسبما يرى رولان بارت، إذا أرادت القراءة أن تكون مشروعة، يجب أن يتوفر فيها معيار الانسجام الداخلي. أما الإجابة الأكثر إقناعًا في هذا الصدد، يقول فانسون، هي تلك التي تقدمها المقاربة السيميائية للقراءة والتيترتكز على أن التلقي في جزء كبير منه، مُبرمَج من قِبَل النص، ومن ثَم فلا يستطيع القارئ أن يفعل أي شيء يريد، ووفق تعبير أمبرتكو إيكو، على القارئ التزامات " فيلولوجية إزاء النص: عليه أن يكشف ما أمكن مستودعات المؤلف، وإلا سيجازف بتشفيرات زائغة. هنا لا يفوت فانسون أن يُفرق بين القراءة الساذجة، ويعني بها القراءة الأولى للعمل الأدبي، وبين القراءة النقدية أو المحترسة كما يسميها حيث يستطيع القارئ فك شفرة الصفحات الأولى في ضوء النهاية إذا ما أعاد القراءة واستخدم معرفته العميقة بالنص. ثم يختتم فانسون فصله الأول بقوله: عندما ينبني العمل الأدبي لا تصبح إعادة القراءة فقط أمنية، بل ضرورية.
أما في الفصل الثاني فيتحدث فانسون عن أقنعة القارئ، عن أنواع القراء الثلاثة وهي القارئ الضمني، القارئ المجرد، القارئ النموذج، ملفتًا النظر إلى أن القارئ الذي يسلم به النص هو قارئ مُتخيَّل على الدوام كما بيّن ذلك في دراسة مثيرة للاهتمام ولتر بونج، حيث ترى دراسته أن القارئ شيء مفترض يبتكره الكاتب لبناء حكاية ما ليس إلا.
وفي الفصل الذي يتساءل فيه فانسون قائلا كيف نقرأ، يجيب موضحًا أن القراءة بعيدًا عن كونها تلقيًا سلبيًا، تبدو تفاعلا إنتاجيًّا بين النص والقارئ.
في فصل آخر يتحدث فانسون جوف عن المستويات العديدة لقراءة نص أدبي، وعن تعددية النص الأدبي وعن النصوص المكتوبة والنصوص المقروءة وكليهما متعدد الدلالات. كما يتحدث عن نوعين من القراءة، أحدهما جاذب والآخر طارد، موضحًا أهمية أن كل قارئ يمكنه أن يسقط شيئًا من ذاته على النص المُعطى، ومن هنا نفهم بشكل جيد أن المعنى المستخرج يمكنه أن يبحر ضد مقاصد المؤلف.
فانسون يرى أنه من المستحيل استنفاذ عمل أدبي بطريقة كلية، وليس بعيدًا أن يجلب كل فرد على حدة، من خلال قراءته، معنًى زائدًا، واستنادًا إلى دراسات سابقة يؤكد فانسون على أن هناك نوعين من القراءة: قراءة تشاركية وفيها يتعالى القارئ عن الوضعية المحدودة التي يكون عليها في الحياة اليومية، وقراءة تأملية حين يصل القارئ إلى رؤية عالم ليست هي رؤية عالمه الثقافي.
وفي سياق آخر يرى فانسون جوف أن ما تقوم به بعض دور النشر من تزيين الكتب الكلاسيكية بصور الممثلين يحرض على الاقتناء وليس على القراءة.
ومتحدثًا عن الطفل الذي يقرأ بداخلنا يقول فانسون إن القراءة تعني بطريقة ما إعادة الارتباط مع معتقداتنا وأحاسيسنا في الطفولة. القراءة التي منحت لمتخيلنا في السابق عالمًا لا نهائيًّا، تبعث هذا الماضي كل مرة نقرأ فيها قصة بطريقة نوستالجية.
وكما بيّن ميشيل بيكار فإن القراءة تُرجعنا إلى ماضينا: يمكن لكلمة واحدة أن تبعث ماضيًا، فعبر القراءة يُحيل النص كل واحد إلى تاريخه الحميم.
في الفصل الأخير يتحدث فانسون جوف عن تأثير القراءة قائلا إذا كانت القراءة تجربة، فذلك لأن النص يؤثر في القارئ بطريقة أو بأخرى، كما يرى أنه من الممكن تمييز القراءات التي تؤثر تأثيرًا ماديًّا، والتي تتحدد في المرح والتسلية، ومع ذلك لا ينبغي أن نهمل البعد الاستراتيجي لعدد من النصوص التي تخفي رهانات كبرى حقيقية. فانسون يحدد طريقتين لفهم التأثيرات الواقعية للعمل الأدبي، إذ يمكننا دراسة القراءة سواء في نتائجها العامة على المجتمع أو في تأثيرها الخاص الذي تحدثه في الفرد. في الحالة الأولى نتصورها في صلتها بجمهور معين، وفي الحالة الثانية نتصورها في علاقتها بذات فردية. كذلك يمكن دراسة التأثير العام من إرجاع البعد الثقافي للنص، استنادًا إلى مبدأ القارئ ليس فردًا منعزلا في فضاء اجتماعي، إذ تلعب التجربة المنقولة من القراءة دورًا في التطور العام للمجتمع. فانسون يؤكد كذلك على أن العمل الأدبي عوضَ أن ينمي القيم المهيمنة، يستطيع أن يشرع قيمًا جديدة من خلال القراءة، كما يرى أن فائدة النص المقروء لا تأتي مما نتعرف فيه عن أنفسنا، ولكن مما نفهمه فيه عن أنفسنا، كما يركز فانسون على أن القراءة الأدبية لها ميزة نوعية تأتي من خلال آثارها التي ينبغي فهمها.
هذا وفي خاتمة كتابه يقول فانسون جوف إن نظرية القراءة مثلها مثل النقد ستواجه خطرين متقابلين: أن تكون واسعة جدًّا أو مختزلة جدَّا، وفي الحالتين معًا ستفقد مضوعها: نوعية العمل.
وبعد..هذه جولة سريعة قمت بها بين أروقة هذا الكتاب المهم الذي عرفنا من خلال صفحاته أهمية القراءة ودور القارئ في النص وتأثره به عبر متعة جمالية تتحرر فيها الذات بواسطة المتخيَّل من كل ما يجعل حياتها واقعًا إكراهيًّا، داعيًا مبدعينا ودارسينا والمهتمين بمجال الكتابة والتلقي إلى قراءته كاملاً حتى يقفوا على ما فيه من نظريات هم بحاجة إليها، خاصة ونحن في مثل هذه الأيام التي اقتربت فيها وسائل التواصل الاجتماعي والميديا أن تقضي على فعل القراءة، وبالضربة القاضية التي لا قيام بعدها أبدًا.
|