القاهرة 03 سبتمبر 2024 الساعة 10:21 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
رصدت الأدبيات العالمية مصطلح "أدب السيرة"، كأحد الآداب التي تشكل بنية الحياة والكون والعالم. إذ أنه نوع من الأدب الجميل الذي تواشج مع الحياة العامة والخاصة؛ وتشابك مع متطلبات الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ النفسي؛ وغير ذلك .
وأدب السيرة يبحث داخل جوقة الذات والعالم؛ ويبحر بالنفس الإنسانية إلى جُوَّانِيَّاتِهَا؛ وجوهرها؛ ويغوص داخل أغوار الذات النفسية؛ لِيُخْرِجَ لنا مكنون العواطف والمشاعر؛ والأحاسيس، التي تختفي خلف حديقة النفس الإنسانية التي تحمل الوجع والحزن؛ والفرح والسعادة كذلك.
وفي كتابه (الجارات.. سيرة المنسيات) للأديب والكاتب المصري كريم أبو حليمة نلمح إرهاصات عالم السيرة الذاتية التي ترتبط – كما وصفها- بسيرة المنسيات؛ ليدلف بنا – منذ البداية - عبر العنوان الإحالى إلى عالم المهمشين والفقراء؛ أولئك المنسيين؛ أو الذين لا يلتفت أحد إليهم؛ فوصفهم بالمنسيين؛ عبر الحارات للقرية المصرية .
ولا شك أن مشهدية الحارة تأخذ القارئ مباشرة إلى الحارة المصرية؛ والبساطة والفطرة التي يتحلى بها أولئك المنسيين المهمشين؛ الذين يمثلون الواقع الحقيق الفطري لعالم الحياة المصرية؛ عبر القرى والحقول؛ وحياة الريف الجميلة؛ والحارات والأزقة؛ وعبر حكايات الحياة الميثولوجية التي تشبه الأساطير؛ أو التي تختلف عن حياة المدن وصخبها؛ حيث القرية أو الحارة تمثل مركزية العالم وفضاءاته السيمولوجية الممتدة؛ وحيث عالم البساطة الإنسانية؛ وجوهر الحياة؛ ومعانيها البعيدة هناك.
لقد استطاع الكاتب العالمي " نجيب محفوظ " أن يصور لنا الحارة المصرية وعوالمها وأهلها وعاداتهم وتقاليدهم؛ وطرائق تفكيرهم؛ وسلوكياتهم؛ وغاية تصوراتهم وآمالهم؛ ولكنه تخير حارة بعينها؛ ومواقف خاصة أراد ربطها بمشكلات مصر آنذاك؛ وغدت حارة نجيب محفوظ مرتبطة بالفتوة والحرافيش؛ والصراع بين الكبار والصغار عبر الظلم الاجتماعي؛ واسقاطات الرموز لواقع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر؛ بل والعالم العربي.
أما هنا في تلك السيرة الذاتية الاجتماعية للأديب كريم أبو حليمة: (الحارات)؛ فإننا يمكن لنا أن نرصد التحولات الاجتماعية والثقافية ونمط الحياة والتفكير؛ والثقافة الشعبية التي تمثل تلك الحارات؛ عبر القرية المصرية؛ وليس حارة بعينها؛ فهو يرصد ويحكي ويسرد لنا أنماطًا ومواقف وسلوكيات؛ وحكايات عبر وصف من الذاكرة؛ مسهب وجميل؛ وعبر مشاهدات ومواقف تحيلنا إلى ذواتنا المقهورة خلف هذه الحياة الممتدة؛ كما تحيلنا إلى حياة أولئك المنسيين خلف ردهات الوقت والعالم.
ولقد استطاع أبو حليمة أن يضع أيدينا على كثير من أحلام المنسيين هناك خلف هذه الحارات؛ التي تخفي وراءها كل مفردات الحياة والقيم والأخلاق؛ كما تظهر الذات الإنسانية بمكوناتها الفطرية الأولى؛ عبر عالم البساطة والهدوء؛ والصخب والضجيج كذلك.
ويكشف لنا الكاتب الكثير من المواقف الإنسانية التي تشكل أجزاء هذه السيرة الذاتية الاجتماعية للحارة الشعبية العتيقة؛ عبر الريف المصري الممتد.
لقد اختار الكاتب – بذكاء – القالب الحكائي الجميل لأدب السيرة من خلال " المتتاليات السردية "؛ فهو يدخل إلى جوهر الحكاية ليركز على جزء يرصده لواقع هذه الحارات؛ من خلال هذه المشاهد التي تشبه "المقاطع السينمائية"؛ حيث نراه يرصد واقعة ما بعينها؛ ويمكن للقارئ المثقف أن يسقطها كذلك على الواقع الحالي ليربط بين "أدب السيرة الذاتي"؛ و "أدب المشاهدات والرحلات".
إن هذه السيرة الحياتية لأولئك المنسيين خلف ردهات المدينة والعالم، ليست سيرة ذاتية؛ بقدر ما هي رحلة للحارات المصرية؛ يأخذنا الكاتب الحصيف عبرها إلى عالم وحياة أهل الحارات؛ داخل القرية المصرية العتيقة / المعاصرة؛ لنتعرف إلى ثقافتهم؛ وأنماط تفكيرهم؛ ومشكلاتهم؛ وأحلامهم؛ وآمالهم وآلامهم؛ والتي هي جزء لا ينفصل عن المشكلات المصرية بصفة عامة؛ لكن تظل الخصوصية ونوعية المشكلات مرتبطة بالمكان؛ ونمط الحياة البسيطة لأولئك المنسيين خلف المدن والعواصم؛ والذين يشكلون شريحة اجتماعية منسية؛ لا يتم الالتفات إليها إلا نادرًا.
لقد بدأ مبدعنا أبو حليمة متتاليته القصصية/كتابه عن أدب السيرة الذاتية والاجتماعية من خلال إهداء بسيط؛ يشكل – كما أرى – نمطًا للتحول داخل تلك الحارة؛ فالإهداء يمثل العتبة الأولى للولوج إلى مجاهل عالم تلك الحارات؛ يقول : (إلى أماني التي تغير برحيلها كل شيء .
وعبر هذا العنوان نلمح ديناميات الحركة والسكون؛ وتحولات الحياة بالنسبة له بغياب أماني التي تغير بعدها حاله؛ بل حال القرية والحارة والكون والعالم لديه. وكأن الإهداء يكشف صورة نمطية ذاتية لمكنون وجوهر الكاتب؛ ولنمط الحارات التي تختلف أنماط عاداتها وحياتها باختلاف البيئات العديدة لتلك الحارات التي حسبناها متشابهة؛ فإذا هي حيوات ممتدة؛ وعوالم متغايرة تمثل كل أنماط الحياة؛ وتعبر عن الأطراف التي تمثل الهوية الأولى لتشكل المركزيات؛ ولتنامي المدن والعواصم؛ عبر المجتمع والعالم والحياة.
ولقد كان الكاتب أكثر ذكاء مرة أخرى في عرض متوالياته القصصية؛ أو الحكائية؛؛ فحملت مروياته للسيرة العديد من العناوين الكاشفة مثل: (حكاية عنايات) فقد بدأ أولى حكاياته وسردياته بمشهد صارخ لاستيقاظ أهل الحارة على صراخ عنايات وهي تولول : قتلوك الكفرة؛ قتلوك الأنجاس" فتستيقظ القرية وتهب لنجدتها لنرى مشهدية جريمة القتل عبر الصباح الباكر؛ فنصطدم بأن المقتول كلبًا؛ وليس زوجها أو ابنها؛ ويأتي الجميع مهرولين؛ ويحمدوا الله أنه خلصهم من أذاه.. فقد كان كلبًا مؤذيا؛ ليخرجوا من عندها وهم يحمدون الله لخلاصهم من أذى هذا الكلب
ولعلنا نلمح طرافة السرد؛ وجزالة الموضوع؛ والذي يمكن أن نحيله إلى الواقع واسقاطاته ومعانيه؛ عبر الرمزية؛ فالمعنى يختفي داخل سياقات السرد؛ وعلى القارئ أن يتخيل ما يريد؛ وكأنني أمام قصية من قصص الفيلسوف " بيدبا" في "كليلة ودمنة" ؛ حيث يختفي الرمز لصالح المعني الذي يختفي خلف السياق ؛ وتلك مهارة كاتب يريد أن يعبر عن الواقع المعيش من خلال مواقف متماثلة للحارة؛ فهنا تغييب للرمز والمكان والزمان؛ لصالح المعنى الذي يمكن أن يمتد لكل زمان ومكان؛ للتعبير عن الظلم والقسوة؛ وعدم الرفق بالحيوان؛ وما يستتبعه ذلك من اشتباكات مع العالم والحياة أيضًا .
وتتوالى المرويات لتكشف عن حياة الحارة الشعبية بكل تفاصيلها ومفرداتها؛ من خلال الملابس وطريقة الكلام؛ وسلوكيات الأفراد.
ففي قصته "ظل" يكشف عن طبيعة الحياة ومأكولات أهل الحارة؛ وملابسهم؛ وطموحاتهم وأحلامهم؛ كما نلمح الطقوس الشعبية لأسبوع المولود في قصة رمانة؛ وواقع الحياة الشعبية وعاداتها وتقاليدها؛ وفي قصة شادية يشير إلى طقوس ومعتقدات أهل الحارة في طريقة "طاسة الخضة"؛ وعلاج الممسوس بالجان؛ والغوص خلف عالم الجن والعفاريت والسحر والمخيال المثيولوجي الممتد .
وينتقل الكاتب ببراعة شديدة عبر أسلوبية وتنامي هارموني السرد الجميل؛ للإشارة إلى كل طقوس الحياة في الحارة؛ كقراءة المشايخ للقرآن على رأس الممسوس؛ وحكايات الجن والعفاريت عبر الميثولوجيا الاجتماعية التي تشبه حياة الأساطير.
وتتوالي المواقف من خلال مدلولات رامزة لكل مواقف أهل القرية وعاداتهم وطبائعهم وملابسهم وعاداتهم وتقاليدهم؛ وحليهم الشعبية وطقوس الأفراح والزواج والطلاق والمآتم والإيمان بالسحر والمعتقدات الروحية والأرواح؛ وحب إنجاب البنين؛ وما يحدث خلف المزارع والحقول؛ وحكايات العجائز وشيخ الحارة؛ ومواقف المنسيين؛ وأحزان البسطاء من العجائز والرجال وكبار السن؛ وأحلام الفتيان والصبية والبنات؛ وما يدور في الحقول بالليل والنهار؛ وجرار الماء والكفاح في زراعة الأرض من أجل لقمة العيش والحياة؛ والأنشطة المنزلية للمرأة المصرية والبنات؛ والواجبات المنزلية؛ ومراعاة القيم النبيلة؛ وغير ذلك..
إنه عالم بسيط؛ متجدد؛ بعيد ومغاير ؛عن صخب المدينة وتعقيداتها؛ إلا أنه عالم ليس مثاليا كذلك؛ ففيه اللص والنصاب والفتوة؛ ولكن بندرة شديدة؛ فهناك قانون العرف الذي يحكم؛ وهناك قيم وأخلاق وعادات وتقاليد نبيلة؛ لا زالت تتحكم في سلوكيات الفرد والجماعة الشعبية هناك.
لقد استطاع أبو حليمة أن يحدثنا عن القرية المصرية بحاراتها وعاداتها وتقاليدها وحيواناتها وطبائع أهلها الطيبين؛ ومواقف الأولاد والبنات؛ وطرق الحياة الجميلة والبائسة؛ وأنماط الفكر وثقافة الشعبية التي تحكم هذه القرى البعيدة خلف المزارع والحقول ؛والسواقي التي تنعر بأحلام وآمال هؤلاء المنسيين – كما وصفهم - عبر الكون والعالم والحياة .
إن هذه السيرة الشعبية؛ أو المتوالية القصصية؛ أو القصة التي تتمثل التراث والموروث وتحيلنا إلى عالم المثل والقيم قد استطاع كاتبنا أن يعبر بصدق عنها؛ دون تجميل أو تزييف للحقائق والوقائع؛ وجاء سرده منضبطًا ومعبرًا عن روح كاتب كبير استطاع أن يتحكم ويمسك بلجام لغته الجميلة ليضيء لنا الكثير من غير المعلوم؛ والمسكوت عنه داخل القرية المصرية وعالمها الباذخ الجميل؛ كما كشف لنا ببراعة عن أحوال الطبقة المهمشة؛ أو شرائح المنسيين – على حد تعبيره - داخل المجتمع المصري؛ ليكشف لنا كاتبنا عن ماهية هذا الواقع المنسي البعيد عن فكر المدينة والعواصم؛ وهو بذلك يقوم بدور التنويري الذي يشير إلى المناطق البعيدة المحرومة والقابعة هناك بعيدًا عن التمدين؛ خلف براري العالم عسى أن يتم الالتفات إليها، وتحديثها؛ أو النظر إليها من جديد لتصبح في الذاكرة الآنية، ليشاهد العالم - من جديد - الجمال الإنساني المصري للقرى المصرية الممتدة عبر براحات المجتمع المصري المعاصر .
في النهاية : سيظل كتاب الحارات واحدًا من أهم كتب السيرة الذاتية المجتمعية الشعبية للقرية المصرية؛ وسيظل مثار نقاش، وبحث نقدي ممتد؛ لأنه يطرح رؤى مغايرة، عبر لغة صافية، شفافة، تتناغم فيها هارموني الحروف المموسقة مع جماليات الوصف السردي المتناغم الجميل؛ لتنداح على الروح مسيرة الحب الإنساني الممتد .
ستخرج شمس القرية من جديد؛ تشرق على العالم بالحب؛ وتظل جرار الضوء هادرة بغدٍ جديد، وأمل جديد، يطرحه الكاتب كريم أبو حليمة مع نجمة الصباح التي ننتظر مجيئها البهي الجميل، الممتد بين الكون والعالم والحياة.
|