القاهرة 29 اغسطس 2024 الساعة 09:41 م
بقلم: د. ماهر أحمد سليمان
رواية "الحرام" من أشهر روايات الأديب "يوسف إدريس" صدرت عام 1959م ، وتتناول الرواية حياة طبقة مهمشة من طبقات المجتمع ، ألا وهم عمال التراحيل ، وهم عمال فقراء لا يملكون من حطام الدنيا شيئا، خلفوا ديارهم وراءهم، ليرتحلوا إلى بلاد أخرى للعمل في وسية أو أبعدية لأحد الأغنياء، ويعد هذا العمل الموسمي خاصة موسم جني القطن مصدر رزقهم الأساسي، حيث يقضون اليوم من شروق الشمس حتى غروبه.
تدور أحداث الرواية في إحدى قرى شمال الدلتا في مصر، في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي ، وتبدأ أحداثها عندما يعثر الخفير "عبد المطلب" على جثة طفل رضيع ميت على أحد الجسور بالقرية وسرعان ما ينتشر الخبر ويتجمع أهل القرية وتدور التساؤلات حول ماهية الطفل وأسباب قتله ورميه بهذه الصورة ، فلا بد أنه ابن حرام هكذا أجمع الأهالي، فهذا الفعل لا تقدم عليه سوى امرأة اقترفت الخطيئة بأن حملت سفاحا وأرادت أن تتخلص منه فقتلته.
و تكثر تكهنات الأهالي حول أم الطفل، وتدور الشبهات حول عدة نساء في القرية، ولكن معظم التكهنات كانت من نصيب عمال التراحيل (الغرابوة) كما كان يطلق عليهم، الذين يقيمون بالقرية للعمل. ولكن لا يستدل على الفاعل وتقيد القضية ضد مجهول، ولكن يظل الجدل بشأن المرأة التي اقترفت هذه الخطيئة ثم قتلت وليدها.
ويزاح الستار شيئا فشيئا ويكشف عن الفاعلة. عندما يمر "ناظر الزراعة" ليباشر عمل الأنفار في الأرض ويفاجأ بوجود " ظليلة" وسط الزراعات ويسأل مشرف الأنفار ، فيخبره بأنهم صنعوها لامرأة من عمال التراحيل أصابتها الحمى، وسرعان ما يعترف له بأنها هي أم الرضيع، ويذهب إلى مكانها ويكشف ما وضع ليسترها من حرارة الشمس، فيجدها في ضعف ووهن جراء ما أصابها من حمى النفاس ، "عزيزة" ذلك هو اسمها إحدى عاملات التراحيل، ولا تقوى على الكلام إلا زفرة تطلقها من حين لأخر قائلة (هو جدر البطاطا السبب يا ضنايا).
ثم يسرد الكاتب مأساة "عزيزة" ، كانت عزيزة تعيش في إحدى القرى الفقيرة وتتزوج من "عبد الله " وتنجب منه ولد وبنتين وكان عمله الأساسي في التراحيل وسرعان ما أصبحا من عمال التراحيل يرتحلا معا كلما أتيح عمل في إحدى الأبعديات.
ظل الأمر كذلك حتى أصيب الزوج بمرض شديد أقعده عن العمل ، وتقوم "عزيزة " بالعمل في منازل القرية تخدم كأن تقوم بالخبيز أو غيره من الأعمال، إلى أن جاء المنادي يعلن عن عمل في إحدى الأبعديات و ترتحل عزيزة معهم وتترك أولادها مع أبيهم المريض لتوفر لهم قوت اليوم، أصبحت عزيزة عائل الأسرة وعمادها ومصدر دخلها، وظل المرض ينهش جسد زوجها المريض حتى استحال شبحا واهنا.
وذات يوم يشتهي زوجها " البطاطا" فتسرع لتبحث له عنها فهو مريض ورغبة المريض لا بد أن تحقق ، تذهب إلى غيط "قمرين" فقد جمعت البطاطا من أرضه ولكنها ستذهب تحفر الأرض علها تظفر بجدر بطاطا ، وتجد هناك ابن صاحب الأرض "محمد بن قمرين" فيرق لحالها ويمسك بفأس ويحفر الأرض ويقذف إليها بحبتين من البطاطا فتتلقفها شاكرة وتسرع بها ولكنها تتعثر وتسقط في إحدى الحفر فيسرع إليها وبدلا من إخراجها انضم إليها في الحفرة وسرعان ما تطور الأمر إلى ما يشبه الاغتصاب، فلم تستطع عزيزة أن تصرخ خوفا من الفضيحة، واستسلمت.
عادت عزيزة إلى بيتها وأطعمت زوجها وأولادها البطاطا، ويتملك عزيزة الإحساس بالندم واللوم والتأنيب لاستسلامها وعدم مقاومتها خوفا من الفضيحة، وتمر الأيام وتشعر عزيزة بأعراض قد خبرتها من قبل تنبئ بأنها تحمل بين أحشائها جنينا، حاولت أن تجرب كل الوصفات الشعبية كي تتخلص منه ولكن فشلت جميعها، إنه ابن حرام كما وصفته هي ولذلك يستعصى نزوله.
مرت الشهور ونما حجم الجنين ، ماذا تفعل والناس جميعا يعلمون أن زوجها مريض منذ سنوات ولا يقربها، حاولت عزيزة إخفاء حملها بحزام عريض شدته بإحكام على بطنها، وجاء المنادي ليعلن عن عمل واستعدت للرحيل، وانضمت لعمال الترحيلة وسارت بهم السيارة إلى مكان العمل.
وذات يوم شعرت عزيزة بآلام المخاض أثناء عملها فتحملت حتى انتهت من العمل وعانت آلاما لا تطاق ، وانتحت بعيدا ناحية أحد الجسور وأحضرت معها عودا من الصفصاف تجز عليه بأسنانها لتكتم آلامها وينزل الرضيع ويصدر صوتا سرعان ما تردد وعلا في الخلاء حاولت أن تسكته لكنه مات، عادت عزيزة إلى مكان إقامة العمال، وسرعان ما تصاب بحمى النفاس، ويصنع لها العمال ظليلة تستلقي تحتها، حتى اشتدت عليها الحمى وماتت، واستقر الرأي على حملها إلى قريتها في عربة لوري من عربات التفتيش.
تطرح القصة عدة تساؤلات هل كانت عزيزة جانية أم ضحية؟ هل ارتكبت الخطيئة أم المجتمع هو من ارتكب الخطيئة في حق هذه الفئة من الناس؟ إن هؤلاء هم بؤساء هذا العصر وضحايا التفاوت الطبقي الظالم.
أبدع يوسف إدريس في تصوير جوانب الظلم الاجتماعي الذى تعيشه طبقة مهمشة من طبقات المجتمع، وإبراز معنى الحرام الحقيقي، فهو ليس الذى وقعت فيه بطلة القصة وإنما ما يرتكبه المجتمع في حق هؤلاء الناس، كما أبدع في تصوير تفاصيل البيئة الريفية في ذلك الوقت وهو ما يدل على إلمام الكاتب الواسع بحياة الريف.
ولكن ما يؤخذ على الكاتب ما أضافه في نهاية القصة، عدة ورقات تؤكد تغير المكان والظروف المعيشية في نفس البيئة بعد عدة سنوات، فالقصة كتبها الكاتب في عام 1959 أي بعد ثورة يوليو وأراد أن يؤكد أن الظروف قد تغيرت والأوضاع قد صارت إلى الأفضل ، وربما أراد الكاتب بذلك التقرب من السلطة و الموالاة لها. فأوضاع هذه الفئة حتى وقتنا الحاضر كما هي ، ولعل حادث السيارة النقل الذي أودى بحياة كثير من الفتيات وكذلك حادث المعدية النيلية التي غرقت بمن عليها وكانت كل منها تحمل فتيات صغيرات كن في طريقهن لجمع المحصول في مزارع الكبار ، كل ذلك لدليل على استمرار معاناة هذه الطبقة من الناس، وإن اختلفت المسميات عبر فترات مختلفة، فما زالت تلك الخطيئة يوصم بها جبين المجتمع.
|