القاهرة 27 اغسطس 2024 الساعة 10:56 ص
قصة: عمر أبو القاسم الككلي - ليبيا
الجذع القوي الذي انبثقت منه أغصان الأسرة وحملها غصنا فغصنا، من ماء جبينه استمدت اخضرارها وازدهت بالدفء الصادر من ضرام روحه.
سمعته ذات ضحى بينما كان يسير خلف المحراث حاثا، بين الفينة والأخرى، الجمل على السير في خط مستقيم، يغني [و أظنها المرة الوحيدة التي سمعته فيها يغني] بصوت غير جميل، ولكن بنبرة تفيض استعطافا ورجاء:
يا لطيف ويا لطيف
الطف بعبدك الضعيف
لكنه لم يلطف، هو شخصيا، بالجمل المهزول الذي تساقط وبره من على مساحات كبيرة في جانبيه عندما توقف أثناء الحراثة وكف عن جر المحراث. ظل يلهب، بغضب بركاني، جنبيه وكفله بلسعات غصن زيتون طري وهو يرغي حتى تهاوى وأخذ يمد عنقه مصدرا حنينا حارا متلفتا نحو أبي في نظرة كسيرة، كما لو كان يؤكد له معتذرا بأنه إنما توقف عجزا، لا عنادا.
لا أتذكر أنه قبلني أو احتضنني أو داعبني أو مزح معي مرة بعد أن تجاوزت الخامسة أو السادسة من عمري.
عندما كانا، هو وأخي الأكبر، يقومان بالحراثة قريبا من مكان السكن كنت أذهب إليهما عند اقتراب موعد عودتهما فأطلب منه أن أمسك بالمحراث وهو يسير إلى جانبي أو أساعد أحدهما في فك عدة الحراثة عن الجمل استعدادا للعودة [كانت معونة تسبب تعويقا أحيانا] فكان بعض الأحيان يسألني في همس [لم أتبين دواعيه آنذاك]:
امك شِنِ ادِّير؟.
تستغل أمي أحيانا خلو البيت في العشية إلا مني ومن أختي الصغيرة فتلتفت إلى جسدها وتقوم بالاستحمام [لا صنابير ولا تجهيزات خاصة]
تغسل في لحمها.
فيسارع هاشا إياي ويصفعني على وجهي متلفتا نحو أخي محاولا إخفاء ابتسامة لا إرادية.
فيملأني في كل مرة استغراب حول لماذا أضرب رغم أني أقول الحق.
كان عندما يصفعني على وجهي بكفه العريض القوي يسقطني أرضا، وكنت سريعا ما أغالب نفسي وأنهض فيعاجلني بصفعة أخرى تسقطني من جديد، فأوعاود النهوض ويعاود الصفع، إلى أن يكف هو عن الضرب.
الآن أكتشف أن جزءا كبيرا من مشكلتي معه كان يكمن في محاولتي النهوض. مؤكد أنني لو مكثت ملقى على الأرض بعد سقوطي إثر الصفعة الأولى لكان تركني.
هاجس النهوض السريع وعدم البقاء ملقى على الأرض هو الذي كان يحركني عندما تلقيت تلك اللكمة يوم نقلونا من سجن الشرطة إلى السجن العسكري.
فتحوا علينا سيارة الصناديق المطلية نوافذها بالأسود وأخذوا ينزلوننا واحدا واحدا صائحين علينا بضرورة الركض.
هَرْوِلْ!
عندما جاء دوري كان عسكري أمامي منشغلا عني بضرب أحد الرفاق وكان عسكري آخر يركض نحوي من بعيد فانبجست في ذهني خطة إنقاذ مؤداها أن أركض، حاملا أمتعتي القليلة، بأقصى جهدي، كي أتجاوز العسكري المنهمك بالضرب قبل أن ينتبه إليَّ وأن أفر من العسكري الراكض [كمن يمرق بين لسان لهب توجهه الريح إلى الجهة الأخرى ولسان آخر تدفعه نحوه] وأجتاز منطقة الخطر قبل أن يصلني [لست أدري لماذا نشأ لدي نوع من اليقين وقتها بأني لو وصلت إلى النقطة التي كانوا يريدوننا أن نقف فيها قبل أن يدركني، فلن يواصل مطاردتي. خيل إليَّ أنها منطقة أمان] لكن العسكري المندفع نحوي تمكن من أن ينشب يده في ذيل كنزتي المشقوقة غير المزررة التي لا بد وأن الهواء كان يدفعها إلى الخلف، وسدد لي لكمة تحت أذني جعلتني أمدد على البلاط السميك الصلد أطرافي الأربعة [دون أن أسقط أمتعتي] وكان كل همي عندها [من أول إحساسي باللكمة وحتى إحساسي بالأرضية القاسية تحتي] أن أنهض وأواصل فراري، تجنبا للركلات المحتملة إن ظللت ملقى، وتفاديا لمزيد من اللكمات. فنهضت سريعا مستأنفا ركضي، وأشبعت تلك اللكمة شهية العسكري للضرب.
منذ أن تجاوزت السادسة تقريبا لم نكن يوما على وفاق. تمدد فيما بيننا ما أسميه الآن سوء استيعاب متبادل. لم يستوعب متطلباتي وتطلعاتي ولم أستوعب رؤيته للعالم التي كانت تبدو لي، كلما تقدمت في العمر، شديدة الغرابة والصلابة. ورغم أني كنت أصغر أبنائه الذكور إلا أني لم أكن، خلاف ما هو متوقع، أثيرا لديه. ما ظل يزيد الفجوة بيننا عمقا واتساعا أنني كنت قد ألقيت بنفسي منذ فترة مبكرة في حمأة التمرد والعصيان ثم أفكار وقيم الثورة في مختلف أبعاد الحياة وتفاصيلها.
ما من شك في أنه أحبني. ولكنه حب لم يبده هو ولم أستشعره أنا. حب مقلوب، يمكن القول. يتجه إلى داخله هو بدل أن يتجه خارجا نحوي. حب دفين مرصود في صندوق سميك صلب كنواة اللوزة الصماء.
عندما خرجت من السجن كان قد مضى أقل من ثلاثة أيام على وفاته [توفي يوم الثلثاء 1988.3.1 وأخرجت أنا يوم الخميس1988.3.3] قال عمي:
على ما عشت ما سمعتش مأتم ينقلب فرح. فرح ينقلب حزن سمعت بيه. لكن مأتم يولي فرح، هذي أول مرة.
كان عمي نابها في التقاط المفارقة، لكن أظن أنه لم يكن دقيقا. لم ينقلب المأتم فرحا، ولكن الحداد والفرح امتزجا امتزاجا فريدا. الموت والحرية أنتجا مزيجا مدهشا. كان الناس يصافحونني ويحتضنونني مهنئين ثم يواسونني معزين. والغريب أن عددا كبيرا منهم كانت تتألق على أساريره علامات التهلل عند التهنئة ثم، مباشرة، يغيم الوجه منه ويتحدر عليه الدمع وهو يعزيني. لقد تحول المأتم إلى عزاء [بالمعنى الحرفي للكلمة]. منذ حوالي أربع سنوات لم أره [منعت الزيارة نهائيا في هذه السنوات الأخيرة] في اليوم التالي طلبت زيارة قبره.
كانت المرة الأولى التي أدخل فيها مقبرة. كان اسمه محفورا في أسمنت شاهدة القبر. تخيلت أبي المهيب كفحل الإبل الفتي ممددا تحته مغمض العينين بدون رغبات أو مخاوف تتجسد في أحلام أو كوابيس ودون أن يستشعر لسعة برد أو لفحة حر لا يتذكر ماضيا ولا يعي حاضرا ولا يتوقع مستقبلا، وقد شرع التحلل يسري في جسده القوي الذي لم يعرف المرض إلا نادرا. هذا الجسد الماكر الذي عندما فوجيء بأن المرض قد خاتل أجهزة إنذاره وتسرب إليه خفية كأي عنكبوت أو حشرة صغيرة ولم يكشف عن نفسه إلا بعد أن تمكن واستفحل وأدرك أن أوان مقاومته قد ولى، فارق، فورا، الروح المنهكة الدائخة التي صارت عاجزة عن مساندته مكتفيا من الحياة بحوالي ثمانين حولا مفوتا عليه فرصة التنكيل به وإظهاره ضعيفا عديم الحيلة وخائرا، وهو الذي عاش متماسكا منتصبا مرفوع الرأس يشق الفراغ ويقولبه حوله أينما حل. صحيح أنه لم يهزم المرض. ولكنه حقق عليه انتصارا بأن خيب رجاءه. وتذكرت عندها ذلك السجين الذي كان يبدأ، أيام وجبات الضرب، بالصراخ ما إن يسمع أزيز الباب المعدني الثقيل يفتحه الجنود، فلا يضربونه إلا ضربا قليلا، في حين ينهالون على أولئك الذين يغالبون الصراخ بضرب مبرح إلى أن ينخرطوا في صراخ حاد ناتج عن وجع لا يطاق طالبين الرأفة بهم.
وتصورته من تحت التراب يقول:
ما بيتش نكدركم ونثقل عليكم. طلعت من الدنيا زي ما خشيتها. عشت فيها وما طلبتش منها غير الكرامة والستر. سايرت الزمان زي ما طاب خاطره، حاذيته، لا جربت نسبقه ولا لهثت وراه، وما كانش هذا ساهل. السمى ما طايلها حد والوطى عشت عليها، سافرت فيها آلاف الكيلو مترات وحرثتها وزرعتها، غرست وعربنت ولقمت فيها آلاف الأشجار ياما كلت منها وما زالت تاكل ناس وحيوانات، تعفر جسمي بترابها وخش غبارها ريتي. أنا بلقاسم بن محمد شلِّيق بن احمد بن سعيد، الككلي، ولد عيشة بنت عبد الصمد، درت إلِّي وصلّني ليه عقلي وقدرت عليه، واذا كان ما جبدني حد بخير ما اظنش فيه حد بيجبدني بشر.
الآن، بعد مرور حوالي سبع عشرة سنة على موته، أتساءل لماذا يخطر لي أحيانا أن أشبه أبي بفحل الإبل. ربما بسبب قامته المهيبة وبدنه القوي وصبره الشديد. أتذكر أنه كان يتكلم مرة عن أحد مرافقيه إلى الحج الذي مرض هناك فقال يصف صبره في مواجهة المرض المبرح: صبره صبر جمال.
عندما تحصل هو وبعض أفراد الأسرة على إذن لزيارتي للمرة الأولى بعد شهور من السجن فوجئت به يجلس منهكا ذابل الملامح دامع العينين. سبق أن رأيته باكيا في مناسبة أو اثنتين. لكن هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها يبكي من أجلي. بدت نظرته مستسلمة مرتبكة يمتزج فيها الانحراج من بكائه والرغبة في إخفائه بمشاعر التعاطف معي والإحساس بضرورة أن يظهر لي حزنه عليّ. فآلمني ما حدث له. لقد زج به في نوع جديد من المشاكل أبعد ما يكون عن فهمه، و لا حول له ولا حيلة في مواجهته.
قال لي في الزيارة التي أعقبت الجلسة الأولى من محاكمتنا:
توا، زي ما شفنا، ما عندهمش عليكم حاجة. إلا اذا كان يحاكموا فيكم بعدين في مكان آخر محاكمة سرية، هذاك عاد الله أعلم.
المسكين!
لا أعلم كيف كان وجهي يبدو ونحن خارجون من جلسة النطق بالحكم، التي لم يتح للجمهور العادي حضورها، مربوطين من أيدينا كل اثنين بالأصفاد مقادين إلى سيارة السجن، و إن كانت المسافة التي بيننا قد مكنته من أن يقرأ فيه شيئا، إلا انه سألني من بعيد متلهفا:
شنو صار؟.
رددت بسرعة:
مؤبد.
لم أشأ أن أتأكد من ردة فعله. لكنني لمحته، بزاوية عيني، يلطم، كأية ثكلى، مقدم وجهه بيديه وهو يتهاوى ببنائه الشامخ الذي لم يسبق له أن اهتز.
ستحكي لي أمي، وأكثر من قريب وقريبة، في أكثر من مناسبة، بعد خروجي، كيف أنه كان يجاهر بندمه على سوء معاملته لي وكيف أنه اكتشف، بعد فوات الأوان، أنه لم يقدرني حق قدري، ويتساءل ما إذا كنت سأسامحه.
وكأن تلك الصَدفة، صدفة اللوزة الصماء، لم تكن لتنكسر وتفرج عن لبها بأقل من تغييبي في السجن.
الآن تذكرني حالة الإنهاك التي كانت تسري في كيان أبي في تلك الزيارة بحالة ذلك الجمل الذي توقف فجأة عن جر المحراث وبنظرته الكسيرة.
هل قلت بأني لم أكن أثيرا لديه؟.
اكتشف الآن أن هذا الحكم لم يكن منصفا. لم يكن موضوعيا، إذا ما استبعدنا التعابير الأخلاقية. على العكس. لقد اتضح لي الآن أنه كان يؤثرني كثيرا. والدليل على ذلك أنه أورثني أهم ما كان يميزه: تأتأته وعناده.
"لكن الأولى عبء محض". سيقول الجميع.
هذا أكيد. إلا أني صرت أرى أن توريث ما هو مفيد فقط إنما يدخل في باب الشفقة، وهي شيء لا يرضى به الكثيرون، وأنا منهم بالطبع. أما توريث السراء مع الضراء فهو الحب الخالص.
لأن ذلك يعني أنه قد اصطفاني لأن أكون امتدادا له.
|