القاهرة 22 اغسطس 2024 الساعة 06:03 م
د. محمد فتحي عبد العال
تجربة حافلة تلك التي جمعت البشر بالقرود عبر الأزمنة المختلفة، فكانت الأخيرة أصلا للبشرية في زعم البعض، ووسيلة للعقاب في العصور الغابرة، بل وصارت كنية بعض الأمراء، ومهنة لطائفة من الناس، وأيضا طريقا لانتقال الأمراض بين الأمس واليوم وربما مستقبلا ..
فتناقل العامة نظرية العالم البريطاني "تشارلز روبرت داروين" حول أصل الأنواع من أن الإنسان أصله قرد، والواقع أن الرجل لم يقل ذلك، إنما ادعى أن الإنسان العاقل الأول "هومو سابينسHomo sapiens " والقرد انحدرا من أسلاف مشتركين، نظرا للتشابهات التشريحية وتشابه الحمض النووي بين المخلوقين (البشر وحيوانات الشامبانزي) بنسبة تتعدى 90%..
أما عن العهود التي كان القرد حاضرا فيها ضمن وسائل العقاب فما أكثرها، ومنها مثلا العهد الفاطمي حيث كان القرد حاضرا كسبيل للتشهير والإهانة بما يعرف بالتجريس، فنجد أمير دمشق "منير الخادم الصقلبي" وقد هزم وفر للجبال ووقع في قبضة عرب من الأحلاف سلموه لغريمه القائد التركي "منجوتكين" في بلاط الخليفة الفاطمي "العزيز بالله نزار بن معد بن إسماعيل" طمعا في جائزة، فعاقبه بناء على وشايات أنه يكاتب سلطان بغداد وصاحب حلب بأن أركب على جمل ومعه قرد يصفعه وذلك عام 992 هجرية، وعوقب معه نحو مئة من أصحابه أركبوا على الجمال ووضعت على رؤوسهم الطراطير وطيف بهم في دمشق ثم بعلبك وأخيرا مصر، والطريف أن العزيز بالله عفا عنه بعد ذلك ..
أما "أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني النكاري الخارجي "صاحب أو راكب الحمار فقد ناله من هذا الشكل العقابي المهول جانبا كبيرا وقد قاد ثورة ضد الفاطميين بإفريقية في عهد الخليفة الفاطمي الثاني "محمد بن عبيد الله بن الحسين القائم بأمر الله" ، وعوقب بواحدة من صور التمثيل الجسدي الشنيعة بأن أدخل قفصا ثم أطلق العنان لقردين يلعبان على جثته ويعبثان بلحيته!
وفي دنيا المماليك هناك من كني بالقرد مثل "مصطفى بك جاهين" المعروف بالقرد..
كما جاء ذكر القرود في التراث الإسلامي ففي صحيح البخاري يروى حصين بن عبد الرحمن السلمي عَنْ أبو عبدِ اللهِ عَمرُو بنُ مَيْمونٍ الأَوْديُّ الكُوفيُّ، قَالَ: رَأَيْتُ في الجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمع عَلَيْهَا قِرَدَةٌ، قدْ زَنَتْ، فَرَجَمُوهَا، فَرَجَمْتُهَا معهُمْ.
كما جاءت مهنة "القرداتي" في الفلكلور الشعبي المصري وأشهرها حركات "عجين الفلاحة" لتكون تتويجا للعلاقة بين المخلوقين، والطريف أنهم طالبوا بنقابة لهم في الخمسينيات من القرن الماضي..
وفي العصر الحديث ومع توالي الأبحاث العلمية أصبح راسخا أن القرود وسيلة من وسائل انتشار الأمراض، من بينها "فيروس هربس ب القردي" المتوطن في قرود "المكاك" وبعض أنواع الملاريا بنسبة قليلة، فيما تزعم بعض الدراسات أن فيروس الإيدز HIV أو فيروس عوز المناعة البشري ربما جاء كصورة تطورية من نظيره في القرود SIV أو مرض نقص المناعة المكتسبة عند القردة، وأنه ربما انتقل في المرة الأولى للبشر عن طريق الصيادين الذين أصيبوا بالفيروس أثناء اصطياد الشمبانزي والقرود، وأخيرا جدري القرود محور حديثنا والذي أصبح محط أنظار اهتمام العالم هذه الآونة، وسط خشية من تفشيه في ربوع العالم أجمع..
ومرض جدري القرود أو Monkeypoxأو Mpox هو مرض فيروسي معدي، نادر، غير قاتل في كثير من الأحيان، وبأعراض أقل حدة من الجدري العادي، ينتمي إلى مجموعة فيروسات أرثوبوكس Orthopoxvirus حيواني المنشأ، فهو عادة ما يصيب القوارض مثل الجرذان أو الفئران والثدييات الصغيرة كالسناجب والقرود، ولكن تبقى القوارض المتهمة أنها المستودع الرئيسي للفيروس مع عدم التيقن من ذلك.
وقد جاءت تسميته بجدري القرود لأن اكتشافه الأول كان في الدنمارك عام 1958م بين مجموعة من القرود المخصصة للتجارب العلمية، وينتقل المرض من الحيوانات المصابة إلى البشر، وينتشر بقوة في مناطق غرب ووسط إفريقيا، وقد سجلت أول إصابة بشرية به للمرة الأولى عام 1970م لدى طفل صغير لم يتجاوز السبع أو التسع سنوات من عمره في زائير (جمهورية الكونغو الديموقراطية حاليا)، وينتقل بين البشر عبر المخالطة اللصيقة بحيوان أو إنسان مصاب به فيدخل للجلد والأغشية المخاطية (عبر العينين والفم والأنف) ومن خلال الجهاز التنفسي.
وبحسب موقع "مايوكلينيك" فالانتقال بين البشر يكون من خلال التماس والملامسة المباشرة للطفح الجلدي أو القشور أو السوائل الخارجة من جسم المصاب، أو استخدام ملابس أو ملاءات أو بطاطين أو بياضات لامستها، أو عبر الاتصال الجنسي والتعبيرات الحميمية كالأحضان والتقبيل، أو من الأم الحامل لجنينها، أو عبر التعرض المباشر ولمدة طويلة لأكثر من أربع ساعات للمفرزات والرذاذ التنفسي وجها لوجه ومن خلال قطرات تنفسية كبيرة، فيما ينتقل من الحيوانات المصابة للبشر عبر العض أو الخدش من الحيوان المصاب، أو التعرض المباشر للطفح الجلدي والسوائل الخارجة منها، أو المخالطة المباشرة لدماء الحيوانات المصابة، أو تناول لحومها غير المطهوة جيدا، أو استعمال المنتجات كالفراء والجلود المصنوعة من حيوانات مصابة .
تتراوح الفترة الفاصلة بين التعرض للفيروس (العدوى) وبدء ظهور الأعراض ( فترة حضانة الفيروس) من 3-17 يوما أو 6 -13 أو 16يوما أو 5-21 يوما ومن أعراضه: حمى وارتفاع درجة الحرارة- الطفح الجلدي بعد يوم إلى أربعة أيام من الحمى ( 95% على الوجه لدى حالات و75% على راحتي اليدين وباطن القدمين لدى حالات أخرى أو يبدأ بالوجه بصورة أشد وطأة وينتشر إليهما، ثم يتطور إلى حويصلات سائلة أو بقع مسطحة حمراء وبثرات متفرقة بها قيح أو صديد بأجزاء أخرى من الجسم، ثم لا يلبث أن يكون قشورا، وأحيانا الطفح الجلدي يبدأ في مناطق الأعضاء الجنسية وما حولها أو الفم أو الحلق ) وهو العرض الأكثر وضوحا -صداع شديد -تضخم وتورم العقد اللمفية أو الليمفاوية وهو عرض مميز -آلام في العضلات والظهر- القشعريرة - الشعور بالتعب والوهن، وتستمر هذه الأعراض في العادة من أسبوعين إلى ثلاثة أو أربعة أسابيع ..
لا يوجد لقاحات مخصصة حتى الآن لجدري القرود، وإن كان بعض المختصين يشيرون باستخدام لقاحات الجدري خاصة للعاملين بالمختبرات، حيث تجدي في الوقاية بنسبة لا تقل عن 85% مثل ACAM2000 ( يحتوي على فيروس جدري البقر الحي ولا يستخدم في حالات ضعف الجهاز المناعي والاضطرابات الجلدية مثل إكزيما والتهاب العين والحمل والحالات القلبية والأعمار أقل من سنة ) وجينيوس JYNNEOS ( يحتوي على فيروس جدري البقر الحي بشكل ضعيف وواهن ويستخدم لدى البالغين 18 عاما فأكثر ) أو لقاح الغلوبولين المناعي (يحتوى على أجسام مضادة من أشخاص حصلوا بالفعل على لقاح الجدري) في حالة عدم الاستجابة للقاحات السابقة، كما لا يوجد علاج مخصص أيضا لكن يلجأ الأطباء في علاج بعض الحالات لمضادات الفيروسات المستخدمة في الجدري مثل تيكوفورمات أو Tecovirimat أو Tpoxx (دواء فموي انتقائي يثبط بروتين p37 الخاص بعائلة فيروسات الأرثوبوكس ومنها الجدري وهو البروتين المهم لمرحلة نضوج الفيروس داخل الخلايا المصابة وتغليفه ومن ثم تحريره خارج هذه الخلايا لأخرى ونشر العدوى وبالتالي فمنع هذا البروتين يمنع الفيروس من مغادرة الخلايا المصابة وبالتالي يعوق انتشاره داخل الجسم) وبرينسيدوفوفير أو Brincidofovir أو Tembexa (وهو دواء أولي يتكون من سيدوفوفير مترافق مع جزيء دهني ..هذا الشق الدهني يحاكي عمل ليسوفوسفاتيديل الكولين الداخلي، ويأخذ مساره وبالتالي يمكنه دخول الخلايا المصابة بالجدري، وبمجرد حدوث هذا الدخول ينشق الدواء لينتج سيدوفوفير، والذي سرعان ما يتحول إلى صورته النشطة سيدوفوفير ثنائي فوسفات فيندمج في سلسلة الحمض النووي الفيروسي، ومن ثم يوقف تخليق الحمض النووي لفيروس الجدري وعبر عرقلة إنزيم البلمرة أيضا ومن ثم يتوقف التضاعف الفيروسي وانتشاره بهذا التأثير الثنائي للدواء الواعد) وذلك بحسب موقع MSD manual ..
بعد هذا الاستعراض الطويل.. رب كلمة خير من ألف لو صدقت و"الوقاية" هي الخلاصة، فإن كنت بمفازاة عن المرض احرص على الابتعاد عن مسبباته، خاصة المخالطة الجسدية مع الأشخاص الآخرين والحيوانات وعدم لمس الأشياء التي يلمسها المصابون، والعناية بغسيل الأيدي بشكل مستمر بالماء والصابون أو المعقم الكحولي، وتناول السوائل بالقدر الكافي، وإن كنت بين أنيابه مريضا فكن ترجمانا للصحة وسفيرا للوقاية، فارتدي كمامتك والتزم العزلة المنزلية ولا تغادرها إلا لضرورة قصوى، ولا تشارك أشيائك الملوثة أحدا أبدا، واعتني بتعقيم وتنظيف الأسطح التي تتعرض للمس بصفة مستمرة، وانتظر حتى تنقشع الغمة وتبرأ تماما، وعلامة ذلك تشكل طبقة جديدة من الجلد السليم، ولا تتعجل تقشير البثور.. صدقني لن تضار بأي احتياط أنت آخذ بناصيته تجاه نفسك وتجاه مجتمعك.
|