القاهرة 20 اغسطس 2024 الساعة 01:34 م
بقلم: د. محمد فتحي عبد العال
في الماضي كنا نعتبر التغلب على السمنة مسألة إرادة وأنها معركة تتطلب العزيمة لمجابهتها والتغلب عليها.. لكن الوضع الحالي قلب هذه المعادلة فمع الرصيد العلمي المتزايد من حصاد الدراسات العلمية أصبح جليا أن الأمر يفوق الإرادة وأن مرض السمنة تحكمه عوامل مثل الاستعداد الوراثي ومتطلبات العمل والدراسة والبيئة المحيطة فالقاطنين في مناطق فقيرة تتقاذفهم تحديات كبيرة تجعلهم فريسة للقلق الدائم نظرا لقلة فرص العمل وحين توافرها تفرض على أصحابها عملا متواصلا لا يضع في اعتباره أوقاتا للراحة يمكن استثمارها في نشاط بدني أو رياضي إيا ما كان ..كما أن الأجور المتواضعة في هذه البيئات الفقيرة تمثل تحديا أكثر جسامة في تأمين طعام صحي متنوع ..
العوامل النفسية أيضا لا يمكن إهمال تأثيرها عند الحديث عن البدانة فالتنمر على الأطفال البدناء في المدارس مثلا يشعرهم بالخزي فضلا عن أنه يصنع لديهم شعورا باللامبالاة يجعلهم يفرطون في تناول الطعام بشكل أكبر ويزدادون وزنا فالأمر أمام مرأى أعينهم سيان ..
بالطبع ليس الجميع على منوال واحد في تعاملهم مع مرضهم بالبدانة فالكثير من البدناء يتمتعون بخفة ظل لا تضاهى ويعلل بعض الباحثين ذلك بإفراطهم في تناول الشوكولاتة والبطاطا والموز والمشروبات المحلاة مما يزيد من هرمون "السيروتونين" المعروف بهرمون السعادة والذي يشيع في أنفسهم شعورا بالبهجة والسعادة والمزاج العالي ويثبط لديهم أي بصيص من الاكتئاب وقد تم استثمار هذه الحالة في العديد من الأعمال الفنية الكوميدية التي قدمت العديد من الممثلين البدناء خفيفي الظل من الجنسين ..
من أشهر من ارتبطوا بالبدانة المفرطة "هنري الثامن" ملك إنجلترا وأيرلندا والذي أدى الصراع بينه وبين روما إلى انفصال كنيسة إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية الأم فيها وقد تسببت إصابته الطارئة بالسمنة المفرطة في وفاته المبكرة وكان لا زال في الخامسة والخمسين من عمره وذلك عام 1547م.. ومن المحيط السياسي المصري "أحمد زيور باشا" رئيس الوزراء الذي خلف وزارة سعد زغلول باشا بعد حادثة السردار عام 1924م ولم يكن لرئاسة الوزراء آنذاك مصعد فكان يجد أشد العناء في صعود السلم حتى إذا وصل في نهايته استند على عصاه وأخذ يتنفس سريعا من فرط التعب ومن أجل ذلك أنشىء المصعد كما كان من عاداته بسبب السمنة الذهاب إلى الرئاسة متأخرا عند الظهر حتى اعتاد كبار الموظفين الذهاب متأخرين وحدث أن خالف عادته ذات مرة وذهب مبكرا في الساعة التاسعة صباحا وظل يدق الأجراس فلم يلبِ نداءه سوى أحد صغار الموظفين فسأله عن رؤسائه ففوجىء أنهم لم يحضروا فغضب ونهض من مكتبه وأخذ عصاه وانصرف خانقا وهو يقول إنه لن يحضر هو الآخر !! وقد سار في سبيل علاج هذه السمنة على الوصفات الشعبية ومنها الترمس فكان يركب سيارته كل يوم بعد الغروب إلى شارع الهرم ويوقفها تحت شجرة من الأشجار الكبيرة الظليلة ويمضي الوقت في "قزقزة " الترمس وبعدها ينام ملء جفنيه دون أن يخشى تربص أحد به (أرشيف مجلة الاثنين والدنيا في الأربعينيات)..
والحقيقة أن الوصفة التي أعطيت للباشا من الناحية العلمية لا بأس بها فكوب بذور الترمس المطبوخة بحسب "ويب طب" يحتوي على: ( 2 جرام بروتين -4.6 جرام ألياف -2.3 ملجم زنك -90 ملجم ماغنسيوم بسعرات حرارية منخفضة الدهون 198) مما يزيد الشعور بالشبع فترة طويلة ويقلل الشهية ويقلل كتلة الجسم ويحسن مستوى الدهون الثلاثية ويعزز مستوى الطاقة بالجسم وكذلك كفاءة الجهاز المناعي ..كل هذه الفوائد شريطة إعداده بشكل صحيح ونقعه جيدا فالترمس المر يحتوي على "قلويدات الكينوليزيدين" السامة (تقيه الحشرات و الحيوانات المتغذية على الأعشاب) كما أن الأفراط فيه يسبب الإمساك أو الإسهال والانتفاخات ..
ومن العلاجات الشعبية الطريفة مسحوق الكمون (جرعة يومية 500-1000ملجم ) في اللبن أو مع الليمون والزنجبيل ثلاثة مرات يوميا.
ولأن السمنة لم يعد يجوز إطلاق مرض العصر عليها -كما كنا نطلق عليها في الماضي فهي ليست مرتبطة بالأغذية المصنعة وأنماط الحياة المتسارعة وحدها -فقد أخذ المرض أطوارا علاجية طويلة وعديدة عبر التاريخ مثل (الأمفيتامينات - فينفلورامين وفينترمين -هرمون اللبتين – عشبة الإيفيدرا- السيبوترامين- أورليستات) أخذت وقتها وتلاشت تدريجيا إما لأعراضها الجانبية الجسيمة أو للتشكك في نظرياتها أو تواضع نتائجها ...
نأتي للأدوية الحديثة لعلاج السمنة ومن الأدوية المبشرة والواعدة في علاج السمنة ولا زالت قيد التجربة السريرية ويعلق عليها العلماء آمالا عريضة من حيث السعر وسهولة الاستخدام : orforglipron و danuglipron وهي جزيئات صغيرة تعطى عن طريق الفم وهي من فئة (مجموعة) منبهات مستقبلات الببتيد -1 الشبيهة بالجلوكاجون (GLP-1)، والمعروفة أيضًا باسم نظائر GLP-1، أو GLP-1DAs أو مقلدات الإنكريتين العلاجية والتي تنشط
مستقبل GLP-1 . وتحاكي هرمون الببتيد المشابه للجلوكاجون فحينما ترتفع مستويات السكر في الدم عقب تناول الطعام تحفز هذه الأدوية الجسم على إفراز مزيد من الأنسولين الإضافي مما يعمل على خفض مستوى السكر بالدم..
كما تحاكي عمل هرمون الإنكريتين الداخلي الذي تفرزه الأمعاء بعد تناول الطعام مما يعمل على إبطاء مرور الطعام عبر الجهاز الهضمي من المعدة إلى الأمعاء الدقيقة وبالتالي تأخير سرعة إفراغ المعدة وكبح جماع الشهية والشعور بالشبع عبر تحفيز الجهاز العصبي المركزي علاوة على دورها الفعال في تقليل مستوى السكر التراكمي لدى المصابين بمرضى السكري من النوع الثاني ..لكن لا زالت الأبحاث تجرى حول مدة سلامة هذه العلاجات على المدى الطويل ..
ألم يكن الغراب ملهما لقابيل في أن يواري سوءة(جثمان) أخيه هابيل بعد قتله؟!.. ألم يستخدم سم الحلزون المخروطي السحري الذي يعيش في البحر في تصنيع "زيكونوتيد ziconotide "مسكن الآلام المزمنة والحادة القوي؟! هكذا كانت المخلوقات الأخرى دائما ملهمة ومساعدة في وضع الإنسان على الطريق العلاجي الصحيح حتى مع هذه المجموعة الجديدة من الأدوية التي نحن بصددها حيث اكتشف العلماء أن السحلية السامة الكسولة والأكبر في الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك والمعروفة بوحش جيلا Gila monster أو Heloderma suspectumيحوي سمها الزعاف هرمونا تفرزه حصريا الغدد اللعابية يشابه في تركيبه GLP-1 ويعمل على نفس مستقبلاته لكن يتفوق عليه في كونه لا يتحلل بسرعة ويظل نشطا في الجسم وقد أطلقوا عليه Exendin-4 واعتمد كدواء لمرضى السكري من النوع الثاني ومن رحم هذه الفكرة في استخدام دواء هرموني يستخدم هذه المستقبلات خرجت أجيال متعاقبة تحاول الوصول إلى بؤرة النجاح في علاج السكري من النوع الثاني ورفيقه الملازم له السمنة ..
ومن مجموعة منبهات GLP-1 التي دخلت بالفعل حيز الاستخدام الدواء الأشهر حاليا "سيماجلوتيد" والمعروف تجاريا باسم "أوزمبيك" والذي يستخدم لعلاج السكري من النوع الثاني بشكل أساسي إضافة لعلاج السمنة بعد الترخيص بذلك مؤخرا.. لكن ينبغي الانتباه إلى أن استخدامه لابد وأن يكون تحت إشراف طبي خاصة مع ظهور بعض الأبحاث التي تربط بين استخدامه والإصابة بنوع نادر من العمى هو الاعتلال العصبى البصري الإقفاري الأمامي غير الشرياني علاوة على أعراضه الأخرى مثل أورام الغدة الدرقية والتهاب البنكرياس واضطرابات الكلى والمرارة ..
كما تُجرى الأبحاث على قدم وساق على دواء واعد آخر هو Retatrutide بفاعلية ثلاثية تتخطى أقرانه حيث يعمل على تنبيه مستقبلات ثلاث هي : (glucose-dependent insulinotropic polypeptide (GIP), glucagon-like peptide 1(GLP-1), علاوة على مستقبلات الجلوكاجون )..
هنا يتبادر إلى الأذهان سؤال.. ألا تستطيع المصادر الطبيعية أن تؤدي هذه الغاية وأن تقدم شيئا ذا فائدة في هذا المنحى والاتجاه ؟
تعد الألياف الغذائية هي المصدر الأساسي لطاقة البكتريا التي تقطن أمعائنا وفي دراسة حديثة مؤخرا على الفئران وجد أن الألياف المحتوية على "بيتا جلوكان Beta glucan "والموجودة في البقوليات والشعير والشوفان والفطر والطحالب يمكنها ضبط مستوى سكر الدم وإنقاص الوزن عبر زيادة عدد lleibacterium وهو نوع من البكتريا النافعة بالأمعاء مما أدى إلى زيادة تركيز Butyrate في الأمعاء كناتج لتفكك الألياف وتعمل Butyrate بدورها على إطلاق GLP-1 مما ينظم الشهية والوزن ومستوى السكر بالجسم علاوة على رفع كفاءة الجهاز المناعي بشكل يحاكي فئة الأدوية التي أشرنا لها آنفا، وتوجد عادة في الصيدليات في شكل كبسولات لأنها ألياف غير قابلة للذوبان ومعزولة من جدار خلية الخميرة..
نأتي لمسار خلوي قد يكون الوجهة المقبلة لأبحاث السمنة وأدوية المستقبل ويعتمد على أحد مسببات السمنة في أنه ومع ارتفاع السعرات الحرارية أو ارتفاع مستوى السكر في الدم بشكل مستمر أو التقدم العمري تتزايد جملة المنتجات النهائية للغلكزة المتقدمة أو Advanced Glycation End Products أو كما تعرف اختصارا AGEs...هذه المنتجات تجد نفسها محاصرة في الأنسجة الدهنية لتواجد مستقبلاتها ( RAGE ) على أسطحها حتى في حالة عدم الإصابة بمرض السكري ..ارتباط أو تفاعل AGE-RAGE من شأنه تغيير الإشارات الخلوية والتعبير الجيني والإجهاد التأكسدي وإطلاق الجزيئات المسببة للالتهاب ومن ثم الإصابة بالأمراض ومنها السمنة...
دراسة هذا المسار والتحكم فيه قد يوجّه دفة التجارب العلاجية مستقبلا .
|