القاهرة 20 اغسطس 2024 الساعة 01:31 م
بقلم: محمد جمعة توفيق
في الثامن عشر من أغسطس، يُحيي الأدب والعالم الذكرى 88 لواحد من أكثر الشخصيات إلهامًا في تاريخ الشعر الإسباني: فيديريكو غارثيا لوركا. فقد أودت رصاصات الحرب الأهلية الإسبانية بحياة هذا الشاعر العظيم عام 1936، ليبقى بعد رحيله رمزًا للإبداع والتفرد والحرية الفكرية. لقد كانت نهاية لوركا، في أولى أيام الحرب، بداية لأسطورة أدبية تتجسد في أعماله التي تعبر عن أعماق الروح الإنسانية.
وُلد لوركا في عام 1898 في قرية صغيرة تُدعى "فونتي باكيروس" في مقاطعة غرناطة، ليصير أحد أبرز شعراء جيله. منذ صغره، أظهر شغفًا كبيرًا بالفن والأدب، مما دفعه إلى تطوير موهبته بشكل استثنائي. وقد انضم لوركا إلى "جيل الـ27"، وهي مجموعة أدبية وشعرية إسبانية تهدف إلى تجديد الأدب الإسباني وخلق صيغ جديدة ومبتكرة في الكتابة. كانت أعماله انعكاسًا لحساسيته العميقة تجاه الحياة والإنسانية، حيث تناولت موضوعات متنوعة مثل الحب، والموت، والصراع الداخلي.
وفي خريف عام 1936، يرحل فيديريكو غارثيا لوركا عن عالمنا، تاركًا وراءه عالماً من الكلمات لم يكتمل بعد، ولكن أثره ظل نابضًا بالحياة. لوركا، الشاعر الإسباني الغرناطي الذي لم يتجاوز عمره الأربعة والثلاثين، كان قد كتب لنا أعمالًا خالدة تستمر في إلهام القراء حتى اليوم. وفي ذكرى وفاته، نغوص في عالمه الشعري، متأملين إبداعه الذي شكل جزءًا لا يتجزأ من تراث الأدب العالمي.
من بين روائعه التي تجسد قدرته الفائقة على توظيف اللغة والتعبير، يبرز كتابه الشهير "شاعر في نيويورك" (Poeta en Nueva York) كتحفة أدبية تعكس تجاربه العميقة وتأملاته في الحياة الحديثة. كانت فترة إقامته في نيويورك، خلال أواخر العشرينيات، تجربة مفعمة بالتحديات والإلهام، وقد انعكس ذلك بوضوح في هذا العمل المميز.
إن "شاعر في نيويورك" ليس مجرد مجموعة من القصائد، بل هو رحلة شاقة عبر أعماق النفس البشرية، وسط صخب مدينة لم تكن تنام. حيث تصف القصائد مدينة نيويورك ككائن حي يعج بالتناقضات، حيث يتشابك التقدم الصناعي مع الغربة، والحياة المترفة مع الألم. في هذا العمل، كان لوركا يرصد التغيرات الجذرية التي طرأت على المدينة، مستعرضاً صراعه الداخلي مع واقع يبدو وكأنه يبتلع جوهر الإنسانية.
إحدى القصص المثيرة التي تُروى عن فترة كتابة هذا العمل تتعلق بمغامرة لوركا في عالم المسرح والأدب في نيويورك. كان لوركا، خلال تلك الفترة، يواجه أزمة عميقة في شخصيته، تغذيها عزلته في مدينة غريبة، مما دفعه إلى البحث عن إلهام في كل زاوية من زوايا المدينة. يُحكى أن لوركا كان ينسج قصائده في مقاهي نيويورك، حيث كان يتفاعل مع كل ما يدور حوله، من ضجيج الشوارع إلى أضواء المدينة، يلتقط كل لحظة شعورية ويحولها إلى كلمات تنبض بالحياة.
في أحد المقاهي الصغيرة، حيث كان يجلس مستغرقاً في كتابة قصائده، التقى لوركا بمجموعة من الفنانين والمثقفين الذين كانوا يرتادون المكان بانتظام. كان لوركا يعبر عن معاناته وتجاربه من خلال الأحاديث التي تجري بينه وبين هؤلاء الأشخاص، مستلهمًا من محادثاتهم وأفكارهم. هذه اللحظات من التبادل الثقافي والتفاعل الاجتماعي كانت بمثابة مصدر إلهام حيوي له، ساعدته في صياغة مشاعره وتجاربه الشعرية.
في "شاعر في نيويورك"، يمكننا أن نرى كيف حول لوركا معاناته إلى جمال شعري، وجعل من صراعاته الشخصية مادة أدبية غنية. استخدم أسلوبه المميز ليعكس الواقع المزدوج للمدينة، مقدماً لنا صورة شعرية تتجاوز حدود الزمن والمكان.
عندما نحتفل بذكرى وفاة لوركا، نحتفل أيضًا بقدرته على تحويل الألم إلى جمال، والغرابة إلى إلهام. من خلال أعماله، وخصوصًا "شاعر في نيويورك"، يظل لوركا حيًا في عالم الأدب، وتظل كلماته نبوءة شعريّة تعبر عن عمق التجربة الإنسانية.
|