القاهرة 15 اغسطس 2024 الساعة 02:56 م
بقلم: د. ماهر أحمد سليمان
رواية "دعاء الكروان" من أشهر ما كتب "طه حسين" إن لم تكن أشهرها على الإطلاق، وقد صدّر الرواية بإهداء إلى "عباس محمود العقاد" مشيرًا إلى أن ديوان العقاد "الكروان" هو الملهم له بكتابة هذه الرواية.
اختار الأديب الكروان كذلك لأنه يكثر في البيئة المصرية خاصة تلك المناطق التي تدور فيها الأحداث، كذلك ربما اختاره لما يتسم به هذا الطائر من رقة وبراءة وصوت يحمل الشجن والحزن والأنين وهو ما يتشابه مع سمات الأختين (بطلتي قصته).
تدور أحداث الرواية في أطراف الصحراء الغربية في منطقة جبلية قريبة من الأرياف حيث يعيش بعض البدو . وذلك من خلال حياة أسرة بدوية تعيش وسط مجتمع قبلي، تتكون من أم وأب وابنتين، وقد عرف عن الأب مجونه وسيرته السيئة والانجراف وراء شهواته، على الرغم من التقاليد الصارمة التي تحكم مجتمعهم.
وكان لا بد أن يكون لهذا السلوك الشائن نهاية مأساوية وهو ما قد كان، فقد قُتل الأب ذات مساء انتقامًا للعرض، مما جلب العار لزوجته وابنتيه، مما جعلهن منبوذات بل اجتمع الرأي على إخراجهن من القرية، وهو ما تم فعله، وتم تزويدهن بنفقة الطريق، وخرج معهم الخال حتى ابتعدوا عن حدود المكان.
خرجت الأم "زهرة" وابنتاها "هنادي" الابنة الكبرى و "آمنة" ابنتها الصغرى ليواجهن المجهول، ثلاث نساء لم يسبق لهن اجتياز حدود قريتهم، ولا يعرفن أين يتجهن. ظللن يتنقلن من مكان إلى مكان إلى أن وصلن إلى مشارف المدنية المتمثلة في قرية كبيرة أو إن شئنا قلنا مدينة صغيرة تحمل معالم بعض التحضر.
أقاموا لدى أحد كبار القرية حتى تم استئجار حجرة صغيرة وأقمن فيها، وكان مصير البنتين أن إحداهما كانت تخدم في بيت المأمور والأخرى في بيت مهندس الري. بدأت هنادي وآمنة تألفان حياة المدينة. كانت أسرة المأمور تتكون من المأمور وزوجته وابنته واستطاب العيش لآمنة معهم، أما هنادي فقد كانت تخدم لدى مهندس الري وكان يعيش بمفرده.
تبدأ المأساة في بيت المهندس عندما تقع "هنادي" فريسة سهلة في شباك سيدها، وقد مهدت سذاجة الفتاة وعفويتها لأن تكون صيدًا سهلا وترتكب الخطيئة، وعندما علمت الأم بهذه الكارثة التي ألمت بابنتها وبهن أمرت ابنتيها أن تستعدا للرحيل عن هذه المدينة، ورحلن ونزلن بإحدى القرى ضيوفا على عمدتها، وأرسلت الأم رسولا إلى قريتها يبلغ الأهل بمكان إقامتهن، و يأتي الخال ويرحل بهم ممتطين الإبل وفي الطريق ينزلهن لأخذ قسط من الراحة ثم يستأنفون السير، وسرعان ما عرف الهدف من التوقف في هذا المكان إذ بادر الخال بطعن هنادي طعنة مفاجئة بخنجر وسط ذهول الأم والابنة بل والخال نفسه وفي هذه اللحظة تردد بقوة صوت كروان في الفضاء العريض الذي يلف المكان وكأنه زفرة أسى وأنة ألم مشاركا الضحية أنينها وشكواها.
وصل الركب القرية، ولا تدرى آمنة كيف وصلت إلى قريتها، ولكنها سرعان ما تهرب عائدة إلى المدينة، متوسلة إلى ذلك كل الطرق، عادت أمنة إلى بيت المأمور ، واستطاعت أن تصاحب الخادمة الجديدة لدى المهندس، وسرعان ما علمت أن المهندس يعاشرها، وأنه اعتاد هذا الأمر مع كل خادمة لديه، وتذكرت أختها التي فقدت حياتها جراء غوايته لها.
تمر الأيام ويتقدم المهندس خاطبا "خديجة" ابنة المأمور ورفيقة آمنة فقد كانت تعاملها كالأخت، أخبرت آمنة زوجة المأمور بما ألم بأختها هنادي وما سببه ذلك المهندس من شقاء لأسرتها.
تركت آمنة بيت المأمور وسعت أن تخدم في بيت المهندس مضمرة الانتقام لأختها. ويحاول المهندس أن يمارس معها ما اعتاده مع سابقاتها ولكنه كان يجد منها دائما الصد ، كانت آمنة جميلة مثل أختها، حاولت أن تستخدم الحيلة في التعامل معه وبالفعل ازداد تعلقه بها، ولكن المفاجأة أن الفتاة قد أحبت المهندس، وبدأ الصراع داخلها بين الرغبة في الانتقام وحبها له، وتنتهي الرواية بطلب المهندس الزواج منها، فتعترف له وتقص عليه قصتها وأنها قد جاءت للانتقام فحسب ولكنها ندمت، ويقر هو الآخر بخطيئته وندمه، ويتوسل إليها أن يحاولا معا تضميد جراهما.
جاءت الرواية على لسان آمنة عندما كانت تحاور الكروان أثناء ترديد صوته في الفضاء، أجاد الكاتب التعبير عن الصراع النفسي الذي عاشته آمنة، واستطاع كذلك أن ينقل لنا صورة صادقة تعبر عن بيئة مصرية تحكمها التقاليد المتوارثة في ذلك الوقت، وهي بيئة قريبة من البيئة التي عاش فيها الكاتب في صعيد مصر، ولكن من الغريب أن الكاتب قد اختار أبطال روايته من البدو وهو أمر غير واقعي فطبيعة البدو وما فيها من النخوة والأنفة تستنكف أن تعمل بناتهن خادمات، كما لا يمكن أن يخرجوا النساء بهذه الطريقة من القبيلة لأنهن عرض القبيلة كلها، وربما أراد طه حسين الانتقام من البدو والعربان الذين كانوا يسكنون قريته وكانت لهم سطوة ومكانة ولا يستطيع أحد مهما بلغ أن ينال منهم أو يقترب من منازلهم وقد روى طه حسين ذلك في سيرته "الأيام" فجعل أبطال روايته منهم حطًا من شأنهم وتحقيرا لمكانتهم.
|