القاهرة 14 اغسطس 2024 الساعة 01:17 م
بقلم: د.محمد فتحي عبد العال
ظلت فكرة الرضاعة الطبيعية مترسخة عبر الحضارات القديمة المختلفة لا تفكير في سواها ولا سبيل عنها.. لكن من يقوم بهذا الدور ؟!..هنا كانت المشكلة !..إذ كانت تبدي نساء النبلاء وزوجات الوجهاء والأميرات وسليلات العائلات الكبيرة والعريقة بالشرق والغرب صدودا عن أداء هذه المهمة بأنفسهن ويلجأن فيها للمرضعات وكن يضعن شروطا مهمة لاختيار المرضعات من بينها :البنية الجسمانية للمرضعة لضمان إدار اللبن بغزاره وتوفره علاوة على النظافة الشخصية اللازمة كشرط أساسي ..
هذا لا يمنع من معاناة بعض السيدات بالفعل من قلة الحليب بسبب نقص التغذية( الأغذية المدرة للحليب :الحلبة -الكراوية -الشمر مع عدم الإسراف لتأثيره على الجهاز العصبي للطفل - الشعير - الشوفان - الحبوب الكاملة -الخضروات الورقية والقرعية -بذور الكتان والسمسم -خميرة البيرة -الأطعمة الغنية بالبروتين) أو بعض الأمراض ( موانع الرضاعة الطبيعية: إدمان الكحوليات - الإصابة بالنوع الأول أو الثاني من فيروس الخلايا اللمفاوية T- الخضوع للعلاج الكيماوي والإشعاعي في حالات السرطانات -الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية وانتشار الجالاكتوز في الدم) مما كان يجعل من خيار المرضعة أمرا أساسيا وإلا هلك الطفل حتما وكثيرا ما حمل التاريخ أمثلة من هذه الحوادث خاصة في الريف ..
كثيرا ما كنت أسأل والدي عن صداقاته الواسعة بإخوانا الأقباط فكان جوابه أن لهم فضل عليه في الصغر حينما قامت سيدة مسيحية تدعى سارة ( كانت تكنى بالست أم حسب الله )من كفر نوار بإرضاعه دون مقابل إذ كانت حالة والدته الصحية لا تسمح بإرضاعه مطلقا ..
لكن مع تقدم العهود ..واتساع رقعة النشاط العلمي بالغرب .. بدأ البحث عن أشكال أخرى بديلة عن المرضعات بسبب التكاليف الكبيرة لجلبهن وثقل رواتبهن على ميزانية بعض الأسر الفقيرة والمتوسطة أو انصراف النساء عن مثل هذه المهن في بعض الأماكن .. فبدأ التفكير في استخدام حليب الأبقار والأغنام أو خلط الحبوب والدقيق مع المرق وتقديمها للرضيع بديلا عن الرضاعة الطبيعية..لكن كل هذه الحلول لم تنجح بشكل كاف بسبب عوائق كثيرة ..
كان الحليب الطازج ينقل من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية عبر السفن وخطوط السكك الحديدية وهذا يتطلب نقل قطعان الأبقار نفسها على متنها ( لعدم وجود وسيلة لتخزين الحليب وضمان عدم تغير لونه وطعمه ) مما كان يعرضها للأمراض المختلفة بسبب تغير الظروف المناخية وعدم التأقلم البيئي فكان هذا يؤثر على إنتاجها من الحليب وكثيرا ما يؤدي إلى نفوقها وانتقال الأمراض المصابة بها إلى الأطفال.. فكان لزاما البحث عن وسيلة لتخزين الحليب حتى اهتدى العالم الأمريكي "جيل بوردن" إلى فكرة إعداد الحليب المكثف وحصل على براءة اختراع بها عام 1856م وافتتح مصنعا لهذا النوع من الحليب والذي وإن كان ذا مذاق جيد ويحفظ مدة أطول لكنه في المقابل لم يكن في مأمن من التواجد البكتيري المحتمل بنسبة كبيرة .لذا كان اكتشاف العالم الفرنسي "لويس باستور" عام 1863م، لطريقة "البسترة" وهي طريقة لقتل البكتيريا الضارة في الأغذية حدثا فريدا ومهما في صناعة الحليب الصناعي الآمن ..
كما جرى الاستفادة من التراكم المعرفي للحضارات المختلفة في فكرة التجميد المجفف ( التبريد أو التجفيد ) والذي عرفته حضارات الانديز ( خليط من شعوب وثقافات احتضنتها المناطق من مرتفعات كولومبيا وحتى صحراء أتاكاما) في حفظ البطاطس المعروفة ب" تشونو" كما عرف جنود المغول فترة الإمبراطور "قوبلاي خان" فكرة تجفيف الحليب بوضعه تحت الشمس فترة طويلة حتى يجف ويتماسك ويغدو صلبا ويمكن الاستفادة منه بتذويبه لحليب مرة أخرى عند الحاجة ..
ومن هذا كله استطاع العالم الروسي " ديرشوف" التوصل إلى اختراع أول منتج تجاري من الحليب المجفف عام 1832م تلته محاولات فرنسية لتطوير الحليب البودرة عام 1909م حتى وصل إلى صورته الحالية ..كما توصل العالم الأمريكي "هيرفي تاتشر" إلى تصنيع أول عبوة زجاجية للحليب مغلقة بقرص من الورق المشمع عام 1884م ..رحلة طويلة وشاقة وثرية بلا شك استطاع فيها العلماء من الشرق والغرب إنقاذ ملايين الأطفال حول العالم من شبح الموت المحقق في حالة تعذر الرضاعة الطبيعية وندرة المرضعات خاصة فترات الحروب والمجاعات والحصار..
بعد انقضاء فترة الحرب العالمية الثانية بدأ الحليب الصناعي ينتشر بشكل كبير حول العالم تحيطه دعاية صاخبة تتباها الشركات التي تقوم بتصنيعه حول فوائد الحليب الصناعي الذي يقدم للطفل مالا يقدمه حليب الأم من فوائد ومزايا كما أنه شكل حضاري عصري يليق بالمجتمعات الناهضة وروح الحداثة وصورة المرأة العصرية العاملة ..
ليست الدعاية فقط هي من خدمت مزاعم أن الحليب الصناعي يتفوق على الطبيعي بل روج لها أيضا مجموعة من الإرشادات الخاطئة التي يتناقلها الناس في العادة من أن عدم إقبال الطفل على صدر أمه في البدايات يعني عزوفه عن حليبها لأنه غريزة وهو الخطأ الفادح فالرضاعة الطبيعية تدريب ومهارة تعليمية مع الوقت تتطلب الاستشارة الطبية والتمريضية لتدريب الأم على طريقة الجلوس وأوضاع الرضاعة المختلفة خاصة الأمهات الجديدات حديثي الأمومة ولا فرق في ذلك بين طفل أول أو ثان ..المسألة كلها قائمة على التدريب واكتساب المهارات عبر الدعم والتوجيه الطبي المباشر والمستمر..
من النصائح الخاطئة أيضا إبقاء الطفل بعد الولادة في حضانة المستشفى بعيدا عن أمه لإراحتها أو لكونها تحت العلاج والمتابعة وهنا وللأسف الشديد مكمن خطأ لا يقل فداحة عن سابقه حيث يشير تقرير لمنظمة الصحة العالمية لضرورة بدء الرضاعة الطبيعية منذ الساعة الأولى من الولادة وأن الانتظار مدة ساعتين يزيد احتمالية وفاة الطفل الوليد بنسبة الثلث وهو ما يتضاعف مع الوقت.. ذلك أن الطفل في الساعات الأولى يحصل على كنز ذهبي من حليب أمه هو لبن السرسوب أو اللبأ ( سائل أصفر يفرز بعد الولادة مباشرة بكميات قليلة) والذي يمد الطفل بالأجسام المناعية لغناه بالبروتين الطبيعي خاصة "اللاكتوفيرين" والمغذيات مما يوفر له حماية مناعية من الأمراض طوال حياته، وهو ما ينعكس بالأثر الإيجابي في تقليل وفيات الأطفال بشكل كبير كما أسلفنا..
تضييع هذا الكنز على الطفل الوليد بمثابة إضاعة لأول تطعيم له بلقاح طبيعي يشد من أزره ومن بنية جهازه المناعي لذا فهذه الساعات الأولى أو الأيام الأولى حاسمة وجوهرية ومصيرية بالنسبة للطفل والتي تستغلها بعض المستشفيات الخاصة بالاتفاق مع بعض شركات الحليب المصنع في تعويد الطفل المولود على الحليب المصنع داخل الحضانات، ومن ثم العزوف بعد ذلك عن حليب الأم الطبيعي الذي عادة ما يتهم في البداية بأن لونه فاتح وخفيف ويخشى ألا يكون مغذيا ومشبعا للطفل في البداية وتؤخذ هذه النقطة كمنطلق دعائي في أن الحليب الصناعي يضاف له الأحماض الدهنية أوميغا 3 الضرورية في تشكيل الدماغ وبناء الجهاز العصبي ويضاف له أيضا كميات وفيرة من فيتامين (د) الذي يساعد على بناء العظام والمشي والحديد لتكوين الهيموغلوبين ( لاحظ أنه يسبب الإمساك ) مقارنة بحليب الأم وهذا القول جزئيا صحيحا ولكن ليس في موضعه المناسب إذ تزيد كميات الحليب المدر من الأم مع الوقت ومع احتياجات الطفل أثناء النمو وتتغير أيضا المكونات بشكل طبيعي ومتدرج لذا يطلق عليه البعض "السائل الحي "وسبحان الخالق العظيم قال تعالى في سورة القمر : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)).. ويمكن للطفل الحصول على العناصر المعززة الموجودة في الحليب الصناعي مع الوقت ومع بدء مراحل التغذية التي يسمح له فيها بالغذاء بعد الشهر السادس أما قبله فحليب الأم وحده كافيا وملبيا لاحتياجاته .. ..لذلك ينبغي الإنتباه جيدا والمشورة الطبية المستمرة ..
ومن حصاد الأبحاث العلمية الأخيرة فكفة حليب الأم الطبيعي تعلو بمراحل الحليب المصنع -مالم تكن الأم في حالة مرضية لاتسمح بالرضاعة الطبيعية - ذلك أنه من مزايا حليب الأم تقليل خطر الحساسية والالتهابات ( الربو والأكزيما )ومخاطر الإصابة بالسمنة والسكري من النوع الثاني وكذلك متلازمة موت الرضع المفاجىء ( SIDS) كما يعمل على زيادة هرمون "الأوكسيتوسين ( كلمة إغريقية تعني الولادة السريعة وهي من وظائفه) "وهو المسؤول عن شعور الترابط والتراحم والحب بين الأم ووليدها وفي دراسة حديثة أجريت على الفئران وجد أن 30 ثانية من البكاء المستمر لصغار الفئران تؤدي لإطلاق هرمون "الأوكسيتوسين " ، والذي يلعب دور المنبه فيحفز إدرار حليب الثدي لدى الأم كاستجابة فورية لبكاء رضيعها دون تأخير ..كما يحتوي حليب الأم على مكون هام هو( Milk Fat Globule Membrane أو MFGM أو غشاء كريات دهون الحليب ) المهم للبناء الهيكلي والوظيفي لأمعاء الطفل وتكوين الفلورا المعوية التي تقيه من الأمراض في بدايات الحياة فضلا عن دوره في تطوير الدماغ بنيتها ووظيفتها ..هذا المركب الهام يزال أثناء عملية صناعة الحليب لذا يحتاج الحليب المصنع لإعادة هذا المكون مرة أخرى وهو ما صادف تحديا كبيرا لسنوات نظرا لبنيته المعقدة للغاية فكانت الشركات تستعيض عنه بتركيبات دهنية مقاربة من الزيوت النباتية حتى تم تطويره مؤخرا من الأبقار ..
نخلص من هذا كله إلى رسالة هامة حملها العنوان وهي أن حليب الأم هو الخيار الأول والأفضل ولا غنى عنه لصحة طفلك مالم تكن هناك موانع طبية شديدة تحول دون ذلك وتضطرك للحليب الصناعي.
|