القاهرة 14 اغسطس 2024 الساعة 01:13 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
كانت المعتقدات الفلسفية لسقراط تتعارض كليا سواء أخلاقيا أو فكريا وسياسيا مع الأثينيين، فعندما حوكم وبدأ الدفاع عن نفسه انتهج مبداه السقراطي أو ما يعرف باسلوب "إلينخوس" لكي يدافع عن نفسه امام هيئة المحكمة التي كانت تتكون من عدد من المحلفين، وهو كما ذكرنا طرح الأسئلة ثم الإجابة عليها.
ولم يكن سقراط هو الذي ابتكر طريقة الجدل، أعني الطريقة التي تلتمس العلم عن طريق السؤال والجواب، فالظاهر أن زينون -تلميذ بارمنيدس- وكان أول من استخدم الجدل على صورةٍ مطردة، وفي المحاورة الأفلاطونية «بارمنيدس» ترى زينون يعامل سقراط نفس المعاملة التي يعامل بها سقراط أشخاصًا آخرين في مواضع أخرى من المحاورات، لكن ثمة ما يبرِّر لنا كل التبرير أن نقول إن سقراط قد مارس هذه الطريقة وهذَّبها، فقد رأينا أن سقراط حين حُكم عليه بالموت، أخذته نشوة فكرية لأنه في العالم الآخر سيُتاح له أن يُلقي أسئلةً إلى الأبد دون أن يحكم عليه بالموت، إذ إنه سيكون عندئذٍ من أصحاب الخلود، إنه لو كان قد مارس الجدل على النحو الموصوف في محاورة «الدفاع» فلا شك أن عداوة الناس له تتضح علتها في غير عسر، فكل دجالٍ في أثينا كان على استعدادٍ أن يؤازر في مناصبته العداء.
إن سقراط في محاورات أفلاطون يدَّعي دائمًا أنه لا يريد أكثر من استخراج المعرفة من نفس سائله، وهو لهذا يُشبِّه نفسه بالقابلة، وتراه في محاورة «فيدون» ومحاورة «مينون» حين يطبِّق طريقته على مشكلاتٍ هندسية، يُلقي أسئلةً موجَّهة لا يُبيحها أي حكمٍ عادل، والطريقة متمشية مع مذهب التذكر القائل بأن الإنسان يتعلم بتذكره لِما كان يعرفه في وجودٍ سابق على هذا الوجود، ولتفنيد هذا الرأي انظر إلى أي كشفٍ كشفه الإنسان بالمجهر، كانتشار المرض بالبكتريا مثلًا، فلا يسهل على إنسانٍ أن يذهب إلى أن مثل هذه المعرفة يمكن استخلاصها من شخصٍ كان يجهلها بطريقة السؤال والجواب.
وكان سقراط يعتقد أنه رسول سماوي من الآلهة وهو ما سبب ازعاج الأثينيين، واتهم بالهرطقة والسخرية من الآلهة، كما اعترض سقراط على المذهب السوفسطائي القائل بأن الفضيلة يمكن تعليمها للآخرين، وقال بأن التفوق الأخلاقي يعد شيئا فطريا وليس مرتبطا بالرعاية التي يوفرها الوالدان.
وكان دائما ما يقول سقراط أن أفكاره ليست من نسج خياله، وانما من معلميه منهم أناكسجوراس وبروديكوس، وقال أيضا أنه قد تأثر بشدة بسيدتين إلى جانب تأثره بوالدته منهما "ديوتيما" الساحرة والكاهنة في مدينة "مانتيني" وقد علمته كل ما يعرفه عن الحب، والأخرى هي "أسبازيا" وقد علمته علم البلاغة.
كان سقراط أخلاقيا إلى درجة كبيرة حيث كان يسيطر على شهوات جسده وقلما شرب الخمر، ولكن إذا شرب الخمر لا يستطيع أحد أن يوقفه، ولكنه لم يضبط مرة مخمورا، وكان أفلاطونيا في أمور الحب مهما اشتدت به أمور الإغراء، وبهذا فهو يمهِّد الطريق للرواقيين وللكلبيين من بعده، فالرواقيون يرَون أن الخير الأسمى هو الفضيلة، وأن الإنسان لا يفقد فضيلته بأسبابٍ خارجية؛ وهذا المذهب متضمَّن في قول سقراط لقضائه إنهم لا يستطيعون أن يُلحقوا به ضررًا، واحتقر الكلبيون أنعُم هذه الحياة الدنيا، وبرهنوا على ازدرائهم لها باجتنابهم لأسباب الترف من حضارة الإنسان، وهذه هي نفسها النظرة التي حدت بسقراط أن يمشي حافي القدمين، مهلهل الثياب.
ويقول برتراند راسل: "ونكاد نوقن أن ما يشغل بال سقراط هو أقرب إلى مبادئ الأخلاق منه إلى قواعد العلم، فهو يقول في محاورةٍ للدفاع كما أسلفنا: «لا شأن لي أبدًا بالتأمل في الطبيعة المادية» إن أول ما كتب أفلاطون من محاوراته، وهي المحاورات التي يفرض فيها غلبة النزعة السقراطية، يسوده البحث في تعريف ألفاظ أخلاقية، فمحاورة «شارميدس» معنية بتعريف الاعتدال، ومحاورة «ليسيس» بتعريف الصداقة، ومحاورة «لاخس» معنية بتعريف الشجاعة، وهو لا ينتهي في كل هذه المحاورات إلى نتيجة، لكن سقراط لا يدع مجالًا للشك في أن رأيه هو أن لأمثال هذه المسائل أهميةً بالغة، ولا ينفك سقراط الأفلاطوني يقرِّر وجهة نظره في أنه لا يعلم شيئًا، وأنه أحكم من غيره في شيءٍ واحد، وهو علمه بأنه لا يعلم شيئًا، غير أنه لا يعتقد أن المعرفة مستعصية على التحصيل، بل هو على عكس ذلك يرى أن البحث عن المعرفة أهم ما يهتم له الإنسان، وهو يذهب إلى أن أحدًا من الناس لا يقترف الخطيئة عامدًا، ولذا فلا يُعوِز الناس إلا المعرفة لكي يكونوا جميعًا على فضيلةٍ كاملة.
إن العلاقة الوثيقة بين الفضيلة والمعرفة ممَّا يميِّز سقراط وأفلاطون، وهي ظاهرة -إلى حدٍّ ما- في الفكر اليوناني كله إذا قورن بالمسيحية، فالأخلاق المسيحية تجعل القلب النقي هو الأساس الجوهري، والقلب النقي قد يوجد في الجاهل على الأقل كما يوجد في العالم، ولقد لبث هذا الاختلاف بين الأخلاق اليونانية والأخلاق المسيحية قائمًا حتى يومنا هذا."
|