القاهرة 13 اغسطس 2024 الساعة 11:10 ص
تأليف: إيلان بَبِّي*
ترجمة: عمر أبوالقاسم الككلي
الانسياب الهادئ للأمواج على الشاطئ ذكرها بذلك اليوم المروع. في مثل هذه الفترة، منتصف مايو، وتقريبا- أو لعله فعلا؟.- في مثل هذا الوقت من اليوم، مَغْرِب المتوسط، حين يصبح خط السماء الممتد فوق البحر عرضا لونيا متألقا، صورا وأشكالا. ولكنها، بالطبع، لم تكن يومها على نفس القدر من الراحة الذي هي عليه الآن، وقدماها العاريتان غائصتان في الرمال الدافئة الهسيسة على الشاطئ القريب من قريتها.
المياه المرتعشة وضوء الشمس الغاربة دفعا بالذكريات الأليمة إلى السطح، الأمر الذي أربك ذهنها إلى درجة التشوش. ثم انسدل صمت فجائي، لأقصر وهلة ممكنة، ولكنها شفافة وصافية وحادة، كما لو أن الأشخاص والأشياء، جميعا، قد تجمدوا في الزمن. إنه الوقت نفسه منذ خمسين سنة خلت: فاصل بالغ القصر مكن كل شخص على الشاطئ- القتلة، الضحايا والمراقبين- من تشرب اللحظة، وحتى الاحتفاظ بها على نحو جلي لن يتكرر مطلقا. صار إدراكها الآن أكثر رزانة، ومتحررا من الرعب الذي استولى عليها حينها. هذه المرة طوقها شعور بالاستسلام. "إلِّي فات مات."(2) غمغمت فاطمة لنفسها.
إلا أن الذي فات لم يمت. كل ذلك كان ذنب ذلك الطالب الملحاح. الفضولي وغير المريح، بالنسبة إليها، إضافة إلى عربيته المكسرة. لقد أجرى معها لقاءات بشأن تلك الأيام الماضية ذات الجراح التي لا تندمل. حاولت فاطمة في يأس كنس ذكرى لقائها معه ذلك الصباح، والنأي بنفسها قدر استطاعتها عن الشاطئ وأسراره السوداء.
سارت نحو البوابة- البوابة التي لم تكن هناك منذ خمسين سنة مضت. في سنة 1948 لم تكن لأية قرية في فلسطين بوابة، إلا أن القرية غير موجودة الآن. بيوتها تحولت إلى كِبوتز، حقولها إلى استراحات سياحية، ومقبرتها إلى موقف سيارات. ظلت تعبر هذه البوابة كل يوم أحد في الخمس عشرة سنة الأخيرة، دون أن تقلقها هذه المقارنات. لكن هذا الطالب الملحاح أعاد كل ذلك.
عند مدخل الموقف، المقبرة القديمة، كان ابنها علي ينتظر، بصبره المعتاد، جالسا في كرسي السائق ماخوذا بالصوت المنبعث من مذياع سيارته. "الشريط البائس ذاته" تشكت فاطمة دون صوت. كانت مغرمة بالمغني ولا تكره الأغنية حقيقة، ولكنها ملت من تكرار سماعها. لكن مهلا، ثمة شخص في خلفية سيارة التيوتا المتهالكة. أوه، كلا، ليس ذلك الطالب اليهودي.
"تصادف أنه كان في هذه النواحي لاستكمال بحثه وصادفته". شرح علي، ولكنه دعاه ليس إلى البيت، فقط، ولكن إلى العشاء طبعا.
"العشاء طبعا" أزعج فاطمة، التي قامت وحدها بالطبخ كله. من بين أبنائها الأربعة وبنتيها، لم يبق معها بالبيت سوى علي، الأصغر، وكلما أحب أن يكون مضيافا نتج عن ذلك مزيد من الشغل- وكان علي اجتماعيا. ليكن، ما الذي بالوسع فعله؟.
"مرحبا." غمغمت.
بدا يعقوب أكثر اهتماما من ذي قبل. لم يصبر حتى يصلوا إلى البيت، أو حتى ينتهي حديث المجاملات الذي من المعتاد أن يسبق حضور الطعام. كان واضحا أنه مستعجل وأنه، كما اتضح، لم يلتقهما مصادفة، ولكنه ترصدهما.
"أريد أن أعرف، يا فاطمة، أين تقع القبور الجماعية".
"لقد أخبرتك، يا يعقوب، بأنه قد مرت على ذلك خمسون سنة الآن ويشهد علي الله بأن ذاكرتي بدأت تخونني". توقفت. نظرت إلى علي بقلق، الذي بدا مركزا على الطريق بانتباه أكبر.
"استمعي إليه، يا ماما. هذا مهم. قل لها، يا يعقوب".
"يرغبون في المجيء.. وهذه، أعني، هم، لن يكونوا هنا. علينا أن نطلع العالم على الرفاة.. قبل مجيئهم". كان ينتقل من العربية إلى العبرية بسرعة جعلتها غير قادرة على متابعته. صار أقل اتساقا، وغير قادر على شرح أفكاره بوضوح. بقية شرحه كان متعجلا، وأجزاء منه فقط كانت مفهومة لفاطمة.
"البروفسور، الدكتور عواد، يستطيع الاتصال بوسائل الإعلام التي ستأتي وتصور القبور وتسجل عنها أفلاما وعندها سيعلم العالم و..."
ثم ماذا، حقا؟. تساءلت فاطمة. تعلمت من زوجها الراحل ماذا يحدث لو أنك أزعجت القوة المسيطرة. سيرزح كل أمر تافه من حياتك تحت الضرائب، تصاريح لعمل هذا الشيء أو ذاك، وأسوأ ما في الأمر، تلك المضايقة الدائمة شبه اليومية من قبل شرطة وشياطين الشاباك، الشرطة السرية الإسرائيلية.
"هذا لوجه الحقيقة"، واصل يعقوب بنفس التشوش. (العلم) و(الكرامة الوطنية) كانتا الشظيتين الوحيدتين اللتين تبينتهما من الانتقاد المتواصل ضد إسرائيل وأوساط الأكاديميين، لصالح النضال الفلسطيني.
"لنذهب إلى البيت ونتحدث هناك".
أنقذها علي، وأتمت السيارة المسافة القصيرة بين ما كان قريتها والقرية المجاورة التي أصبحت موطنها الجديد منذ خمسين سنة مضت. هي تعيش الآن في واحدة من القرى القليلة التي نجت من التطهير العرقي على السهل الساحلي بفلسطين في شهور العنف تلك من سنة 1948.
***
عبروا حقول الشعير- بحر من السيقان الصفراء الضاربة إلى البني تهتز إلى الأمام والخلف بفعل نسيم بدايات ما بعد الظهيرة في منتصف مايو. الشباب الخمسة الذين تصدوا لحماية القرية عند شاكلتها الجنوبية رفعوا في حماس خراطيشهم، بنادق قديمة من أيام الحرب العظمى كانت تستخدم للصيد، وصوبوها نحو الغزاة. في أقل من خمس دقائق تلاشوا، سحقوا من قبل الجنود الذين دخلوا القرية من الشرق والجنوب والشمال، مقفلين الطوق برجال البحرية الذين قاموا بالإبرار في الغرب قادمين من البحر.
كانت فاطمة في بداية العقد الثاني من عمرها وكانت عائدة من مدرسة البنات الجديدة التي افتتحت السنة الماضية. كانت تتجه إلى البيت منهكة جراء يوم طويل من ترديدها ما طلب منها المدرسون حفظه حين التقت أخاها الأكبر الذي استعجلها صارخا في نساء البيت طالبا منهن الاختباء في أقرب مكان ملائم لأن"اليهود قادمون". كانت فاطمة تدرك، طوال تلك الأيام من مايو 1948، أن اليهود قادمون. طوال الأشهر الستة الأخيرة كانت تتناهى إليها نتف من الأخبار اليومية، التي هي تقليديا في القرية شأن رجالي. كانت تدرك أن البريطانيين يغادرون وأن اليهود يحتلون القرى المجاورة بسرعة مرعبة. أيضا سمعت الرجال يتشكون من تخلي الدول العربية عنهم: أدلى رؤساؤها بخطب حماسية واعدين بإرسال الجيوش لحماية فلسطين، ولكنهم لم يقرنوا بلاغتهم بأي فعل حقيقي. وعلى الرغم من ذلك لم تتأثر وتيرة الأعمال اليومية تلك الأيام ولا مرة، وكأن خطر قدوم اليهود كان عملا سحريا شريرا لمواجهته تكفي الأبواب المطلية بالأزرق وحلية اليد المفتوحة الخزفية، الخمسة.
إلا أن الأرواح الشريرة، في ذلك اليوم المشؤوم، كانت أقوى من أي طلسم أو من الجن الخيرين الحائمين حول القرية لحمايتها، مثلما كان الشأن في الماضي، بداية من الصليبيين ونابليون وأي غزاة آخرين من الذين توالوا على الساحل الفلسطيني في طريقهم لفتح أراض أخرى، أو سعيا وراء الخلاص المسيحي للأرض المقدسة.
لا فائدة من الاختباء. فلقد وجدهن الجنود وأمروهن، دون استثناء، بمغادرة بيوتهن. استغرق الأمر بضع ساعات، ثم جمع الجميع على الشاطئ غير بعيد عن المكان الذي تجلس فيه فاطمة الآن مستذكرة، بعد ذلك بخمسين سنة، متلذذة بالحفر الدافئة التي أحدثتها قدماها في الرمال الناعمة. سرعان ما فصل الألف من القرويين إلى قسمين، واحد للرجال وآخر للنساء والأطفال، وأجلسوهم على مسافة حوالي مئة متر عن بعضهما. أمروا بوضع أيديهم خلف رقابهم والجلوس متربعين في دائرة. رأت فاطمة أحد أخوتها، يبلغ الثانية عشرة، في قسم النساء، ثم انتبهت إلى آخر، يبلغ الرابعة عشرة، اعتبر رجلا ووضع مع الرجال من أسرتها.
كانت فاطمة جالسة في مواجهة الشمس، وحين أمر الرجال بالتحرك نحو البحر في صيحات عالية وركلات، كانت هيآتهم غير واضحة إلى درجة أنه لم يكن باستطاعتها تبين من منهم من أسرتها ومن منهم من غيرها. ولكن كان يمكنها سماع الرصاصات التي كانت تمزق الهواء، والانفجارات السريعة لنيران البنادق الآلية. بعدها ران صمت- يتردد صداه الآن بالشاطئ- على المشهد. وركضت، بطاقة أفضل عداءة في فصلها. لم تفهم اللعنات العبرية التي كانت تتعالى وراءها وهي تطير عبر الشجيرات متجهة نحو المدرسة القديمة، التي صارت فارغة الآن ومهجورة، الواقعة بالجانب الشرقي من المقبرة. وهي ترتعد خوفا، ثنت نفسها وربضت متكورة فيما لا بد وأنه كان جزءا من مخزن المدرسة، ووجدت شقا صغيرا كانت تتمكن عبره من رؤية حيز محدود من العالم الخارجي.
فيما بعد علمت أن الضجيج الذي سمعته كان ضجيج الشاحنات التي نقلت النساء والأطفال إلى مكان بعيد. ظلت ملازمة مخبأها، وبذلك شاهدت ما يعتبر الآن، بعد خمسين سنة، شيئا نفيسا، من وجهة نظر طالب يهودي ملحاح: تكويم الجثث. هرمان هائلان، ولكنهما لم يحرقا. الكومان تم تجميعهما من قبل مجموعة من القرويين، لم تتمكن من التعرف على معظمهم، تم، بدورهم، إطلاق النار عليهم فيما بعد ثم وضعوا أعلى الجثث. انوشم المنظر في ذهنها، و لم تتركه يتلاشى أبدا.
***
كان مسالم عواد المؤرخ الفلسطيني النشط الوحيد في إسرائيل الذي كان له منصب دائم في الجامعة. وكان أيضا المشرف على يعقوب، وكان مهتما منذ سنوات بنكبة 1948، وعلى وجه الخصوص بجرائم الحرب التي ارتكبت في المنطقة الساحلية. إلا أنه لم يجرؤ على الكتابة عنها بنفسه ولم يكن مرتاحا حين اقترح على يعقوب الكتابة عنها.
كان مسالم مؤرخا تقليديا، يؤمن بالوقائع العينية كمادة أساسية لرواية تاريخ الماضي. مثل هذه الأدلة، يرى، أنها قدمت إليه من قبل يعقوب. هنا توجد الوثائق الواضحة المتعلقة بالشناعات التي كان يسعى إلى كشفها. لقد عثر يعقوب على الوثائق، ليس في المحفوظات العسكرية التي كان مديروها شحيحين فيما يتعلق بالحقائق، و لكن في بيت ابن عمه. كانت المواد بالغة الوضوح بشكل جعل مسالم يصبح مأخوذا بها ويجعل، دون وعي، من تلميذه امتدادا لذهنه هو.
لم تعترف إسرائيل مطلقا بالمذابح التي جرت على الساحل، ولم يشر إليها في الكتابات التاريخية في أي مكان من العالم. "فلنعترف بذلك" كان مسالم يقول. "ليس ثمة أدلة قاطعة". وهو تصريح جعله يلاقي المتاعب مع الذين كتبوا عن الماضي من بين المثقفين الفلسطينيين غير المتخصصين، ولكن الملتزمين سياسيا والمنشغلين بهذا الشأن.
الناجون من المذبحة في قرية فاطمة- وهم بضع نساء والذكور الذين كانوا تحت سن الثالثة عشر حينها- أخبروا المؤرخين الفلسطينيين أنهم سمعوا الطلقات فقط، ولكنهم لم يروا أحدا قتل، وأن الحافلات أخذتهم إلى أعماق الأردن حيث ظلوا ينتظرون، عبثا، الالتقاء بالأزواج والأخوة والأبناء وأبناء العمومة والأصدقاء. لم تذهب فاطمة بالحافلة وتم تبنيها من قبل أقاربها الموجودين في قرية مجاورة، لجأت إليها بعد مغادرة الجنود قريتها، وقبل أن يستولي المستوطنون اليهود على البيوت الباقية ويبنوا عليها كبوتزهم ومنتجعهم البحري وموقف السيارات، طامرين مشهد ذلك اليوم الرهيب.
***
حين قطع يعقوب منتصف الشوط في تصفح المواد التي وجدها في علية ابن عمه أدرك أنه قد وقع على منجم ذهب. "بل حقل ألغام". رد ابن عمه إيغال. لم يستوعب إيغال انفعال يعقوب: لماذا يكترث لحزمة من اليوميات القديمة تركها أبو زوجته؟. كان أبوها ضابطا في الوحدة التي قامت بالعمليات العسكرية على طول الساحل الفلسطيني في مايو 1948. إحدى الصفحات تحتوي تفاصيل وقائع السعار التي انتهت بذبح جميع الرجال والأحداث الذكور في قرية فاطمة. كان نائب الآمر، شخصا ممسوسا، مستفزا بالمعركة القاسية التي خاضها في اليوم السابق، وقبل كل شيء، قرار القرويين الغريب بالبقاء وعدم النزوح، كما جرت العادة في مئات القرى التي اجتاحها الجنود. لماذا سجل هذه التفاصيل في يومياته، كان هذا هو السؤال الذي لم يشغل يعقوب طويلا. إنه المكان، كان الجو دافئا، بل حتى"جنسيا"، قال لإيغال، وسارع، ليس فقط إلى مسالم، بل وإلى الصحافة أيضا.
الحيز البالغ الصغر الذي خصص للموضوع كان كافيا لابتعاث سلسلة غير معهودة من الاعترافات والشهادات المتعلقة بالفظائع التي ارتكبها الإسرائيليون في حرب الـ 1948. كُشف عن المذابح، وعرضت قصص عن الاغتصاب والنهب، وسرعان ما حل محل رد الفعل الإسرائيلي الأول، المتعالي والمغتر، نقمة وهلع، وفي بعض الأوساط الإسرائيلية الأكثر رصانة، ندم.
لقد كانت فكرة مسالم نابهة حين جعل يعقوب يسعى إلى نيل دعم قانوني فلسطيني لغرض المطالبة بكشف القبور في خمس قرى ساحلية يعتقد أن الوحدة نفسها استنسخت فيها، على مدى الشهور التالية، المذبحة الأصلية التي ارتكبت في قرية فاطمة. قامت جماعة شابة من الاختصاصيين والمحامين المفوهين برفع القضية وتأكدوا من أن العالم صار يعلم بها. أدى الدفاع الحكومي الأولي إلى إحراج عام. الجيش، الذي تعود على التعامل مع الفلسطينيين بالقسوة وقوة النار، أصبح يشعر الآن بنوع من العجز. الجميع أصبحوا ينظرون الآن إلى الشرق، إلى مدينة القدس المقدسة، حيث طلب من المحكمة العليا في البلاد البت في القضية.
المحكمة العليا، التي هي دائما نافذة الدولة وتعكس عقد ذنبها، قضت بأن يتم فتح القبور في موقع واحد فقط هو قرية فاطمة، على أن يتخذ قرار آخر في هذا الشأن لاحقا. إذا ما تبين بطلان الادعاءات، فسوف توقف الإجراءات. أما إذا وجدت القبور الجماعية، فإن المحكمة ستلتئم مجددا للنظر في الخطوة التالية.
لم تبد سنة 1948، في أي وقت مضى، خطرة على المجتمع اليهودي مثلما بدت في تلك الأيام أمام الفتح المحتمل للقبور والكشف (بعض الفلسطينيين أسموه بعثا) عن ضحايا المذابح وجرائم الحرب. حرب الاستقلال، حرب التحرير، تلك الحرب الإعجازية التي نظر إليها باعتبارها مثالا على بسالة اليهود وتفوقهم الأخلاقي، بدت فجأة مشوبة بالريبة والخيبة. إن هذا يمكن أن يقود إلى الضغط على إسرائيل للاعتراف بمسؤوليتها عن التطهير العرقي الذي وقعت عملية القتل المحددة هذه في إطاره، وبذلك تعطي مصداقية للمطالبة بحق العودة الذي ينادي به منذ سنوات ملايين اللاجئين المتروكين في المخيمات منذ تهجيرهم.
المبنى الجديد المثلث الشكل الذي تشغله المحكمة العليا الإسرائيلية ذكر فاطمة بقلعة صليبية كانت قد رأتها في واحدة من كتيبات الصور العديدة التي يشغف علي بجمعها. رغم ذلك انبهرت كثيرا بالنظافة واللمعان الفائقين اللذين تتحلى بهما الممرات الطويلة المتقاطعة ذات الأعداد المهولة. قادها مسالم بسهولة إلى القاعة ج حيث يجلس ثلاثة قضاة مشهورون للحكم في مسألة الفتح.
كان الحشد ذلك اليوم مكونا من أناس متنوعين. رجال ونساء قرويين مسنين مثلها، بعضهم معروف لديها وبعضهم لا، كانوا يتكدسون في المقاعد الخلفية ويبدون مرتبكين بسبب طبيعة المناسبة. مجموعة مسنين أخرى كانت مكونة من قدامى المحاربين اليهود، وقد بدا هؤلاء لفاطمة نسخة مكررة لشخص واحد، هو رئيس الوزراء حينها: بدناء، بيض الشعر، ولهم، مع ذلك، وجوه فتية مدورة. البقية كانوا من الإعلاميين الذين كان عدد كبير منهم مجهزا بمعدات متقدمة تتماشى وآخر تقنيات الوسائط الإعلامية.
كانت الجلسة قصيرة بشكل غريب، قصرا قياسيا تقريبا، متفقا مع الحركة البطيئة المعتادة لعجلات العدالة الإسرائيلية. المحامي الأنيق والدمث، يوسف الجاني، قدم الطلب. ممثل الدولة المضاهي له في حسن الطلعة قام بالرد، رئيس الجلسة، وهو رئيس المحكمة العليا، اقترح أنه "قبل أن نغرق جميعنا في محاكمة طويلة وغير مجدية لا تنتهي، قد نجد مخرجا من هذا الاضطراب".
بدا مسالم ويعقوب محتارين. لم يكن هذا ما توقعاه. وقد تفاقمت مفاجأتهما حين طلب الرئيس من محامي الطرفين، بدلا من استدعاء الشهود أو فتح مجال المرافعات، الالتحاق به في مكتبه.
سارت فاطمة ببطء نحو الكافيتيريا القريبة، حيث تحصلت، بصعوبة، على كعكة قديمة وقهوة سوداء. بعد ذلك بخمس عشرة دقيقة التحق بهما البروفسور والمحامي. "أخبار حسنة". قال مسالم متهللا. "سيسمحون- سيأمرون، بالأحرى- بفتح القبور في قريتكم، وإذا ما وجدت الرفاة فسوف تفتح قبور بقية القرى أيضا"، فاطمة لم تبتسم، وفورا أدرك يعقوب لماذا.
***
يقع كوخ فاطمة على نهاية المنحدرات الشرقية للجبل القديم. عائلة زوجها كانت تمتلك كل البيوت في تلك الناحية. بيتها متواضع ولكنه بالغ السماحة. بياض الباب لا شائبة فيه- فقد فقدت فاطمة ثقتها في أبواب الماضي الزرقاء الحامية، ولم تعد تشغل نفسها بوضع قفل ملائم حتى حين تفشت الجريمة في ذلك المجتمع الذي أفقر وهمش على مدى سنوات طويلة، منذ وقوعه تحت الاحتلال سنة 1948.
لوى يعقوب جسده في كرسي يبدو أنه قد صنع للأطفال وليس للكبار، ولكنه فضل الجلوس هناك، كإشارة اعتذار من قبل شخص واع باقتحامه لحرم شخص آخر، ليذكره بماض أليم.
كان نافد الصبر، إلا أنه كان يدرك بأن عليه الانتظار إلى أن تعود فاطمة من المطبخ. رمق علي بنظرة قصيرة، ثم خفض عينيه مفضلا الجلوس جامدا. كانت الطاولة حافلة بسلطات تقليدية، ألذ من وجبات "المطاعم الشرقية" كما تسمى المطاعم الفلسطينية في إسرائيل. كان متحفظا في تناوله للطعام الذي كان معتادا على تناوله بشراهة، ولم يتمالك نفسه عن طرق الأرض بقدميه.
أخيرا وجد الشجاعة على النظر في وجه فاطمة مباشرة. "استمعت إلى الشريط.. ذلك المسجل عليه حديثك". خفضت فاطمة عينيها. دخلنا في الموضوع، قالت لنفسها. "استمعت إليه مرارا وتكرارا. تقولين بأنهم كوموا الجثث. هل حفروا حفرا. هل رموا الجثث في قبر جماعي؟!". فاطمة لم تجب. بدا علي وكأنه يستيقظ من حلم أو غفوة:
"هل فعلوا ذلك، يا ماما؟".
طبعا لم يفعلوا، ولكن لماذا عليها أن تخبر يعقوب بذلك، بسرها، وما الذي سيحدث لغاليها علي إذا ما تكشفت الحقيقة؟. لم تحتج الجرافات سوى إلى خمس أو عشر دقائق لوضع الجثث في الشاحنات، وتعقبتها فاطمة، أفضل عداءة في فصلها. ركضت ثلاثة أميال، وشارفت على الانهيار، حينها توقفت الشاحنات ولحقت بها الجرافات الهادرة. حفرت الجرافات في الأرض حفرا هائلة، ثم وارت فيها الجثث، مسوية الأرض بالمرور فوقها أماما وخلفا. بعد ذلك بسنوات، وجدت أنهم قد زرعوا فوقها أشجار صنوبر وسميت الأيكة على اسم الوحدة التي احتلت قريتها، تذكيرا بمن أصيب منها في الصراع. أشجار الصنوبر تلك صارت رمزا بارزا لمناطق الاستجمام التي بنيت على أنقاض القرى الفلسطينية المخربة في 1948.
يمكنها، لو أرادت، أخذ علي ويعقوب إلى هناك حالا، ولكن من أجل ماذا؟. لعلي عادة مزعجة، وهي قراءة أفكارها.
"نقلوهم، أليس كذلك، يا ماما؟ إلى أين؟".
تعرف أنها لو تكلمت باللهجة الفلسطينية بسرعة فإن يعقوب لن يفهمها. كانت على وشك أن تعيد على مسامع علي أسوأ الاحتمالات التي ستنجر عن مضيهما في هذا المسار. غير أن يعقوب قاطعها:
"تعرفين موقع الجثث، أليس كذلك؟". صار يكلم نفسه الآن. "الجيش والمحكمة العليا يعلمان بأنها ليست في المقبرة. سيأتون غدا، يفتشون المقبرة ويظهروننا أناسا مرضى بالوهم، أترين، ينبغي إرشاد الإعلام إلى الموقع الصحيح".
رغب في أن يستطرد و يشرح المغزى التاريخي، الاجتماعي، بالأحرى، لمجمل القضية، إلا أنه شعر بجيشان عاطفي ورنا إلى علي بنظرة يأس طالبا الإغاثة.
***
لم تسمع مكبرات الصوت تلك منذ سنوات. آخر مرة كانت في بداية الخمسينيات عندما كانت القرى تحت الحكم العسكري القاسي، وسيارة الجيب تقتحم الأزقة الضيقة آمرة الجميع بأن يلزموا البيوت إلى حين انتهاء حظر التجول. إنها اللهجة العراقية نفسها التي كانت منذ سنوات عديدة. وحتى قبل أن يستعيد يعقوب اتكاءته في كرسيه الضيق، اخترق مكبر الصوت الهواء.
"يطلب من كافة المواطنين الصالحين البقاء في بيوتهم، لأنه قد فرض حظر تجول، وكل من يوجد في الخارج ستطلق عليه النار".
كان علي أول من أدرك ما يدور خارج كوخ فاطمة المتواضع. الجيش الإسرائيلي طوق القرية- ضد فاطمة؟. ربما لا، بل لمجرد ضمان عدم إعاقة الحفر. يبدو أن استعراضا دعائيا متقنا قيد الحدوث، وأنهم أرادوا الانتهاء من الأمر تلك الليلة وكانوا مصممين على ألا يزعجهم أي عربي. لم يكونوا يدرون أن فاطمة تعرف- وكانوا خائفين.
من ناحية أخرى شعر علي بالنصر. كان على استعداد لأن يظل سنة كاملة محبوسا في بيت أمه، ثم يأخذ الصحفيين إلى الموقع الحقيقي ويلحق العار بالإسرائليين. فاطمة، هي الأخرى، بدت فجأة عازمة على شيء ما.
"يلاَّ، فلنذهب الآن".
"لا نستطيع، يا ماما". ضحك علي بعصبية. "ثمة حظر تجول. لا تخشي شيئا، غدا، أو الأسبوع القادم، أو الشهر المقبل، لا داعي للعجلة".
"أنا ذاهبة". قالت.
"لا يا ماما". ترجاها.
إلا أنها كانت في طريقها إلى الباب. لا يمكن لعلي أبدا أن يعترض طريقها بالقوة، ولكن يعقوب حاول. كادت أن توقع الطالب الضعيف مزيحة إياه من طريقها، فهو لم يكن عقبة. كانت ترغب في الانتهاء من هذا الأمر مرة وإلى الأبد.
كان الهواء في الخارج عليلا ومنعشا وسارت فاطمة بثبات، غير ناظرة خلفها، واثقة من أن الشابين كانا وراءها. لقد كانت، في الواقع، وحدها، شبحا وحيدا يشق الظلام، ثم ساحة القرية الشحيحة الإضاءة، عندما غمرتها الأصوات:"توقفي، أو سأطلق النار".
"أوه". ابتسمت لنفسها. "لاتنس أنني أفضل عداءة في فصلي". وشعرت كما لو أن أجنحة ترتفع بها، تمكنها من التحليق فوق الهواء في دنيا تنأى عن الرصاص الذي يطلق عليها.
***
لم يحتمل يعقوب المشاركة في الجنازة. وقف مبتعدا قليلا عن المقبرة، مستندا إلى شجرة صنوبر وحيدة خارج الأيكة التي زرعت فوق رابية صغيرة على بعد ثلاثة أميال من قرية فاطمة، تخليدا لذكرى الجنود البواسل الذين حرروا إسرائيل.
(1) Ilan Pappe من مواليد 1954 في حيفا. يعد من المؤرخين الجدد في الكيان الصهيوني، الذين يعارضون المشروع الصهيوني ويفضحون جرائم الاحتلال ويناصرون الحق الفلسطيني. وهذه القصة تعبير واضح عن موقفه من القضية الفلسطينية. من كتبه: بريطانيا والصراع العربي- الإسرائيلي 1947-1951./ خلق الصراع العربي- الإسرائيلي 1848-1951./ تاريخ فلسطين الحديث: شعبان على أرض واحدة. كما حرر عدة كتب من ضمنها: الإسلام والسلام. والعلاقات العربية- اليهودية تحت الانتداب. ترك إسرائيل منذ سنوات عديدة ويعيش الان في أمريكا.
(2) بالنطق العربي في الأصل. وتوجد عدة جمل من هذا النوع في ثنايا الحوار، لم نر داعيا إلى الإشارة إليها.
|